لقد أخذت ثورة الإنقاذ اسمها من الظرف الدقيق الذي جاءت فيه، ففي ذلك الوقت بدأت بوادر انهيار الجيش السوداني أمام ضربات التمرد في ظل إهمال حكومة الأحزاب السافر له ولجنوده، لقد بدأت المدن السودانية تتساقط كأوراق الخريف، وأحس الناس بالخطر الداهم وخافوا أن يفجأهم في قلب الخرطوم، حتى إنّ الحادبين على مصير الوطن بقيادة المشير سوار الذهب كوّنوا الهيئة الشعبية للدفاع عن العقيدة والوطن، وجاءت الإنقاذ في تلك الأيام الصعبة فأعادت للجيش هيبته، وتصدت للتمرد بقوة قزّمته ودحرته وأذهبت أحلامه في دخول الخرطوم فاتحاً. أقول هذا لأن المشهد الآن يشبه، ويا للأسف، الظرف الذي قامت فيه ثورة الإنقاذ، إنّ المشهد يكاد يعيد نفسه وإنْ في مظهر جديد ولكن يبقى المخبر واحداً، فها هو الوطن مهدد بأن يغزوه أعداؤه العملاء المأجورون، وبأمر الحكومة يعودوا لقلب الخرطوم ومقاعد حكومتها عودة الفاتحين، ولا يقولَنّ لي أي فرد في هذه الحكومة إنهم لن يعطوا عقّار وعرمان مناهم في نيابة الرئيس، وفي ما يختارون من وزارات، فإنه مهما قالت الحكومة، وإنْ حلفت بمغلّظات الأيمان ألّا تفرّط ولا تنخذل فلن نصدقها، فقد بلوناها فما وجدناها إلّا خلاَّفة للوعود، منخذلة متراجعة عن أقسامها بالغ ما بلغت من الغلظة والتأكيد. لقد أصبح الإحساس الغالب في كل الصدور هو أنّ الحكومة ليست مأمونة على مقدّرات هذا الشعب ولا حريصة على ثوابته ولا ثابتة على قيمه وعقيدته. إنّه لخذلان مبين وردّة فاحشة أن تخون هذه الحكومة وقفة شعبها معها إبان أحداث هجليج، فتكسر ما أحسّ من عزة وتهزم ما وجد من نصر بالرضوخ لتهديد الغرب، فتحاور عرمان وعقار والحلو الذين لفظهم الناس، وأباهم أبناء مناطقهم التي يدعون أنهم يدافعون عن حقوقهم.إن الحكومة تبعث الحياة في أوصالهم، وتنعش آمالهم في عودة مشروعهم العلماني العنصري الذي سيواصل ما بدأه عرابهم الهالك جون قرنق، القائل في إحدى تجلياته »لقد بقي العرب في الأندلس أكثر من خمسمائة عام ولكنهم خرجوا في النهاية، والعرب في السودان عمرهم أقل من ذلك«. لقد قال أهلنا قديماً »إتنين إن قالوا لك راسك ما فوقك اتبنه« ذلك في إشارة إلى أهمية الاستماع إلى آراء ونصائح الآخرين في كل الأمور، وحين يتحدث أئمة المساجد في الجمعة الماضية ببالغ الأسف والألم ممّا تقوم به الحكومة لدرجة أنّ الشيخ عبد الحي يوسف يتجاوز أمر النصح للحكومة إلى ما يكاد يكون دعوة للانتفاض ضدها، حينها على عقلاء الإنقاذ أن يقرعوا نواقيس الخطر. لقد ظل أئمة المساجد وغيرهم من ذوي الرأي يناصحون هذه الحكومة ويذكرونها بألا تذل شعبها ولا تخذله، وقد وقف معها في أزمة هجليج وقفة لا تجدها الحكومات من شعوبها في العادة. ولكن الصمم الذي واجهت به الحكومة صرخات من حولها، والصمت حتى عن الرد على ما فاضت به الصحف والمنابر من اعتراض على خطوة التفاوض مع قطاع الشمال، هذا الصمت المتكبر والصمم عن النصيحة، جعل الأقلام والمنابر تنادي بأن يأخذ الشعب زمام المبادرة ويجبر وفد التفاوض على الرجوع. فهذا الوفد كما قال الشيخ عبد الحي يوسف غير مفوض لتقديم أية تنازلات جديدة.