وعليه فإني أرجح الخيار الثالث الذي يقول بالإبقاء على المؤتمر العام ومجلس الشورى الاتحادي والمجالس والولائية. ودمج مناشط للحركة الإسلامية بالكامل في المؤتمر الوطني فالعبرة بالفكرة لا بالمسميات، وأحسب ان هذا هو الخيار الأمثل للاعتبارات التالية: 1-إن المؤتمر الوطني... هو الحزب الذي يتبنى المبادئ الإسلامية كقاعدة للدولة، وهو الحزب الحاكم ذو الخبرات الطويلة، والإمكانات الضخمة، وهو الحزب الذي أمَّه عدد كبير من أهل السودان سوادهم الأعظم من المسلمين ويرحب بغيرهم ماداموا مؤمنين بأهدافه وفوق هذا وذاك أنه الحزب الذي يمسك على مفاصله قادة الحركة الإسلامية أنفسهم والذين ارتضاهم الناس وأيدوهم. 2- إن الثنائية والجهد المزدوج الذي تقوم به الحركة الإسلامية كان يمكن أن يشكل إضافة لكوادر المؤتمر الوطني، وإضافة لأدائه، ويجعل الحزب حزباً رسالياً قوياً وأكثر جاذبية. 3- إذا تبادر لذهن الإخوة الكرام أن هذا الخيار الذي أراه يستبطن دفن الحركة الإسلامية في رمال السياسة، فإني أقول لهم إن المؤتمر العام قائم ومجالس الشورى قائمة وتذكروا روافد الحركة الاسلامية التي ستظل قائمة أيضاً على حالتها، تذكروا هياكل الشباب، والطلاب، والمرأة، وتذكروا هياكل الدفاع الشعبي، تذكروا المنظمات الطوعية الدعوية والانمائية، التي تشكل أكثر من 90% من الوافدين على الحركة الإسلامية. 4- تلافي الإهدار في الوقت والمال والجهد الذي يبذل في الاجتماعات العديدة والمؤتمرات والدور المؤجرة للأمانات المتخصصة، وجهود الأعداد الكبيرة من الشباب المفرغ للعمل. 5- تلافي الإرهاق والمشقة الواقعة على قيادات الحركة الإسلامية، سيما الذين يديرون مناصب قيادية بالدولة ذلك الإرهاق الواقع عليهم من الاجتماعات الإضافية. إن الإرهاق( Fatigue) والإهدار( waste) من أخطر فيروسات العمل الإداري والتنظيمي التي أولاها علماء الإدارة بحوثهم وتحليلاتهم. 6- إن انفصال الجنوب وتسلم الحركة الشعبية لتخريب السودان يشكل منعطفاً جديداً في تاريخ السودان ويشكل تحدياً أكبر يتمثل في ميلاد دولة معادية ومغايرة تماماً لتوجهات السودان مكونة أطول خط حدودي ملتهب على الدوام، وحديقة خلفية للتحالف الصهيوني الصليبي بما يتضمنه من الإشكالات الداخلية للبلاد وحروب الوكالة في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق والتي اضرت بالنسيج الاجتماعي والاقتصاد السوداني ضرراً بليغاً، مما يستدعي صفّ كل أهل السودان وحشدهم لمجابهة هذا الخطر الماحق وبناء جبهة صمود تجابه هذا التحدي. ولو ألفَ بانٍ خلفهم هادمٌ كفى فكيف ببانٍ خلفه ألفَ هادمٍ ولكن مما يحمد للشعب السوداني أنه لم يتخلف عن تأييد الحكومة برغم ما أصاب الناس من عناء ورهق جراء هذه الحروب والحصار الاقتصادي. 7- التحديات الإقليمية والعالمية التي نجمت من التغيير السياسي الجذري بعد ثورات الربيع الإسلامي ولا أقول العربي، التي أطاحت الأنظمة القهرية حولنا في تونس ومصر وليبيا، والتي جاءت بالإسلاميين في السلطة، وقبل ذلك التجربة الإسلامية العظيمة في تركيا. ما هو دورنا في تكييف هذا الواقع بأسرع ما يكون؟ ودورنا في التناصر معهم وفق مشروعات تنمية تكاملية؟ 8- إن قراءة متأنية لواقع الناس في السودان تفيد بأنه قد حدث تغيير اجتماعي كبير «Major Social Change» يتمثل في الهجرة من الريف الى المدن، واللجوء الكثيف من دول الجوار، والهجرة الأخيرة ما يمكن أن نسميها بهجرة العقول الخاوية والبطون الجائعة، أضف الى ذلك الزيادة الطبيعية ذات المعدلات العالية في السكان، كل ذلك يشكل تحدياً صارخاً أمام الدولة، نتاجه الغثائية الواردة في الحديث الشريف أومجتمع الاستهلاك (Consuming Society) بكل ما فيه من مشكلات الهجرة والبطالة ومشكلات الشباب والأمراض الاجتماعية والأخلاقية السالبة والضغط على خدمات الإدارة والمعاش والصحة والتعليم والأمن والعمل والمواصلات. وفي هذا المناخ تأتي ثورة الإعلام وثورة الاتصالات.. الفيس بوك والتويتر وما الى ذلك التي اصبح لها تأثير بالغ على العقول والوجدان والسلوك ممثلة سلاحاً ذا حدين لا بد من الاستفادة من إيجابياته وتسخيرها للخير والتصدي للسلبيات وهذا يستلزم التلاحم مع الجمهور حتى لا يكون مطيةً لقوى الشر. إن ماذكرته من تحديات وما لم أذكر يتطلب يقظة ووعياً وحراكاً فكرياً وثقافياً جاداً ويتطلب حراكاً سياسياً واجتماعياً واسعاًً ودؤوباً وعلى كل المستويات وينطلق من القاعدة الشعبية العريضة نحو الهدف الأسنى وهو تحقيق جبهة داخلية كالبنيان المرصوص والجسد الواحد أي بناء الإنسان صانع الحضارة الحقة الذي ينتمي لخير أمة أخرجت للناس.. إن الحركة الإسلامية يجب أن تعي دورها جيداً في المرحلة المقبلة والدقيقة من تاريخ السودان، والذي بات واضحاً أن القوى العالمية تسعى لتفتيته. وعليه أرى ضرورة قيام الحركة الأسلامية ابتداءً بترتيب بيتها الداخلي بالآتي: أولاً: تقوية وإثراء المؤتمر الوطني: أرى أن تندفع الحركة الإسلامية بكل ثقلها الذي كسبته من القاعدة الشعبية العريضة ومن انصار الشريعة من مختلف ألوان الطيف الدعوي والسياسي أن تندفع لتقوية هياكل المؤتمر الوطني، وتتجاوز الحاجز النفسي الذي يحس به البعض تجاه المؤتمر الوطني وإشاعة مناخ ملائم في صفوفه لنمو قيم الشورى والمؤسسية، وتحقيق أي قيم إيجابية يراها الناس مفقودة في المؤتمر الوطني، فليس ثمة حجر على المجتهدين.. ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم مصلحون. وأحسب أن كثيراً من الانتقادات التي توجه للمؤتمر الوطني هى من قبيل الكيد السياسي فقديماً قال الشاعر ابن الوردي في لاميته: إن نصف الناس أعداء لمن ولي الأحكام هذا إن عدل. ثانياً: تقوية الهياكل الشعبية القاعدية: كما ينبغي السعي عاجلاً لتقوية الهياكل الشعبية القاعدية في الأحياء والمحليات والمساجد والمراكز الاجتماعية لملامسة قضايا الإصلاح وقضايا الخدمات متضافرة مع الأجهزة الرسمية. إن نهج المشاركة ( Participation) هو النهج القويم للتنمية الاجتماعية والاقتصادية وهو سبيل التواصل واستنهاض القاعدة الشعبية Grassroots) .إن الدارس لتاريخ النهضة الحديثة في اوربا وبعدها آسيا يتأكد له ذلك، علماً بأن هذا النهج أصلاً قامت عليه الحضارة الإسلامية في صدر الإسلام. إن الحركة الإسلامية هي أصلاً دعوة للناس أن تعالوا الى منهج الله، وإنفتاحها على الناس كافة أمر طبيعي وواجب. يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» أخرجه ابن ماجة. قال الشارح: «مخالطة الناس لا بد أن يكون فيها بعض من الشقاء والعناء والنكد ولكن الأصل هو اجتماع أهل الإسلام وتلاقيهم في المجالس والمجامع، والمساجد والطرقات، يبذلون السلام ويحسنون الكلام، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويدلّون على الخير، ويتناصحون ويزيلون الأذى عن الطريق، وينفقون، ويأمرون ويصلحون بين الاثنين. ولهذا قال ابن الوزير الأصفهاني: «العزلة عبادة الضعفاء وصيد الشياطين». ما يجدر ذكره أن الحركات الإسلامية في العالم نشأت مستضعفة وأصابها ما أصابها من القهر والسجون والتقتيل فإذا وصلت إحداها إلى السلطة أحسب أنه ينطبق عليها قول ربنا «و نُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ» القصص/5/6 فالحركة الإسلامية التي لن يزايد عليها أحد- هي الصوت الأصيل للمستضعفين تنحاز لهم وتنافح عنهم بل تقاتل عنهم «ومَالَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا» النساء/75. والحركة الإسلامية حركة إصلاحية جهادية لاتنحصر في دائرة التبتل والتصوف، رائدها قوله تعالى:«لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا» النساء/95. أرى ضرورة نزول كل عضوية الحركة لإسناد اللجان الشعبية القاعدية القائمة والتي هي في أمس الحاجة لعناصر ترفع من روحها المعنوية، وتزيد من قدراتها، وتدفعها إلى الأمام لخدمة الجمهور. إن الخلق عيال الله أحبهم الى الله أنفعهم لعياله. لقد انتهى عهد الصفوية طالما اصبحت السلطة في يد الإسلاميين اصبحت على عاتقهم مسؤولية كل طفل وامرأة ورجل من الشعب السوداني. لا بد من التعرف على واقع سكان الأحياء الشعبية على قاعدة من البيانات والإحصاءات الدقيقة وإكمال مهمة السجل المدني. إن دولة المدينة أول من عرف الإحصاء السكاني. كما لا بد من استنفار قوى السكان في عملية التنمية الاجتماعية بكل أبعادها الفكرية والأخلاقية والاقتصادية والصحية والتعليمية والأمنية وأن تضافر كل اللجان الشعبية والهياكل الرسمية لترمي عن قوس واحدة لأجل هذا الهدف. إن الناظر لحركة الإخوان المسلمين في مصر يجدها شديدة الارتباط بالقاعدة السكانية في المدن والقرى والدساكر برغم معاكسة السلطات وقتها فهم ينطلقون من المساجد لخدمات مواطني الحي في التوعية والإرشاد وتربية الشباب وترتيب وفود الحجاج وإرشادهم وخدمة الأرامل والأسرالفقيرة بالمشروعات الصغيرة لدرجة أن لهم ورش تصنيع الأثاثات المنزلية لتسهيل زواج الشباب والفتيات.. هذا على سبيل المثال وهو باب من أبواب الجهاد أجره عظيم ومردوده عظيم في الدنيا والآخرة.. ولا أحسب أنه يفوت على عبقرية الحركة الإسلامية تنظيم هذا العمل وفق برنامج موحد ينتظم كل الولايات. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل