ومن حوادث اليوم السابع عشر من رمضان ويكاد يكون هذا متفقاً عليه عند المؤرخين وأصحاب السيرة غزوة بدر الكبرى، و«بدر» عين ماء لرجل يدعى بدراً. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون وبعض الأنصار لطلب عير قريش، واستخلف على المدينة عمرو بن أم مكتوم، وقدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم عينين له إلى المشركين: بسبس بن عمرو وعدي بين أبي وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة.ولما علم بفوات العير وخروج قريش بكامل عتادها وعدتها جمع أصحابه وشاورهم، فأشاروا عليه بلقاء قريش على الرغم من قلة عددهم وعدتهم. كان عدد المسلمين لا يزيد على ثلاثمائة وأربعة عشر نفراً، معهم سبعون بعيراً وفرسان، بينما بلغ عدد قريش ما بين التسعمائة والألف. وقد سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً إلى منقطة بدر، فحدد بنفسه مكانه ومكان عدوه فكان هذا من عين الحكمة وبداية التوفيق الإلهي له وجاءت قريش فأظهرت من الخيلاء والغرور والاستخفاف بالمسلمين الشيء الكثير. ثم جرت المعركة، وكانت ظهر يوم الجمعة سابع عشر من رمضان في السنة الثانية بعد الهجرة، وثبت فيها المسلمون، فقتلوا أولاً مبارزيهم من أبطال قريش، ثم شدوا على المشركين فكشفوهم خلال سويعات عن أرض المعركة، بعد أن قتلوا منهم سبعين رجلاً، وأسروا سبعين آخرين. بينما استشهد من المسلمين أربعة عشر شهيداً: ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. وكان النصر المبين، فاطمأنت نفوس المسلمين، وزعزعت نفوس الكافرين، وانكسرت شوكتهم. وبدر «أول معركة حقيقية طاحنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش. وظهر فيها نصر الله واضحاً جلياً لرسوله. «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ» صدق الله العظيم. وقد كانت غزوة بدر صدمة كبرى لقريش لم تكن تتوقعها وهي في الحقيقة بداية لانهيار الشرك في جزيرة العرب. * لطائف تربوية مستفادة حفلت غزوة بدر بكثير من الدروس والعبر التي كانت مادة خصبة للباحثين والكتاب ليفصلوا حول آياتها ويبينوا حول عبرها، وفي هذا المقال نتطرق إلى بعض اللطائف التربوية المستفادة من هذه المعركة الفاصلة، والتي من أهمها: 1/ اللجوء إلى الله مفتاح النصر: روى أحمد ومسلم، وأبو داود والترمذي وابن جرير وغيرهم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلاً، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل نبي الله القبلة ثم مدّ يده وجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض» فما زال يهتف بربه مادًا يديه مستقبلاً القبلة حتى سقط رداؤه فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك منا شدتك لربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله تعالى: «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ» فلما كان يومئذ والتقوا هزم الله المشركين، فقُتل منهم سبعون رجلاً وأُسر سبعون. وأما البخاري فروي عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد» فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك فخرج وهو يقول: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ». 2/ من توكل على الله فهو حسبه: لما كان توكل النبي صلى الله عليه وسلم على ربه كاملاً، كفاه الله ما أهمه، وذلك بتوليه جل وعلا إدارة المعركة،وذلك واضح في قوله تعالى:«إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ»، فالله حل وعلا هو الذي أمر الملائكة بتثبيت المؤمنين، وهو الذي ألقى في قلوب الكفار الرعب، وهو الذي بين للملائكة وللمؤمنين أين يضربون. 3/ الملائكة بحاجة إلى معية الله سبحانه: وحتى لا يغتر الناس بقوة الملائكة بين سبحانه أن الملائكة بحاجة إلى معيته لنصر المؤمنين، وذلك في قوله تعالى «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ».فالملائكة بدون عون الله تعالى لا يقدرون على شئ ولا يستطيعون تحقيق أي نصر، بل حتى وهم يثبتون المؤمنين ويقاتلون معهم، لا بد لهم من معية الله سبحانه ليلقي الرعب في قلوب الكافرين. وهذا من اللفتات التي ينبغي التوقف عندها، حتى لا يظن ظان أن النصر جاء لمشاركة الملائكة في القتال، ولعل ذلك هو سبب ورود قوله تعالى وما النصر إلا من عند الله في كل آية ذكر فيها مشاركة الملائكة في القتال كقوله تعالى في سورة الأنفال: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ } وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»، وقوله في سورة آل عمران: «} بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هذا يمددكم رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وما النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.» إذاً فالنصر من عند الله، ولا ينصر المسلمون على عدوهم بشدة بأس ولا بفائق قوة بل بنصر الله لهم؛ لأن ذلك بيده وإليه، ينصر من يشاء من خلقه. فالملائكة إذن لا تحقق النصر، وقوة بأس المؤمنين لا تحقق النصر؛ بل المؤمنون والملائكة ستار لقدَر الله وهم جنود الله تعالى، ينصر بهم وبغيرهم؛ لأن النصر بيده سبحانه. 4/ وما يعلم جنود ربك إلا هو: جنود الله لا يعلمها إلا هو، وقد رأي المسلمون بعضها في بدر، من ذلك: النعاس:«إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ» عن علي رضي الله عنه قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا متيقظ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلى ويبكى حتى أصبح، ذكره البيهقي والماوردي وفي امتنان الله تعالى عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان: أحدهما: أنه قواهم بالاستراحة على القتال من الغد. الثاني: أنه أمَّنهم بزوال الرعب من قلوبهم، كما يُقال: «الأمن منيم والخوف مسهر»، وقيل: غشاهم في حال التقاء الصفين. الماء: يقول تعالى: «إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ» حكى الزجّاج: أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماء لهم، فوجست نفوسهم وعطشوا وأجنبوا وصلوا كذلك. فقال: بعضهم في نفوسهم بإلقاء الشيطان إليهم: نزعم أنا أولياء الله وفينا رسوله وحالنا هذه والمشركون على الماء؟ فأنزل الله المطر ليلة بدر السابعة عشر من رمضان حتى سالت الأودية؛ فشربوا وتطهروا وسقوا الظهر وتلبدت السبخة التي كانت بينهم وبين المشركين؛ حتى ثبتت فيه أقدام المسلمين وقت القتال. الحصى: ولما التحم القتال، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعًا يديه يسأل الله النصر وما وعده، وأُمِر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأخذ من الحصى كفاً فرماهم بها وقال: «شاهت الوجوه، اللهم ارعب قلوبهم وزلزل أقدامهم» فانهزم أعداء الله لا يلوون على شيء وألقوا دروعهم، والمسلمون يقتلون ويأسرون وما بقي منهم أحد إلا امتلأ وجهه وعيناه ما يدري أين توجه والملائكة يقتلونهم. 5 إرجاع النصر إلى الله لا إلى النفس: لقد بين سبحانه وتعالى للمسلمين مع مابذلوه من جهد وقدموه من تضحيات أن النصر ينبغي أن لا يُرجع لذواتهم، بل يجب أن يرجع لله، يقول تعالى: «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» فقد روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صدروا عن بدر ذكر كل واحد منهم ما فعل: قتلت كذا، فعلت كذا؛ فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك، فنزلت الآية إعلامًا بأن الله تعالى هو المميت والمقدر لجميع الأشياء، فقيل: المعنى لم تقتلوهم، ولكن الله قتلهم بسوقهم إليكم حتى أمكنكم منهم، وقيل: ولكن الله قتلهم بالملائكة الذين أمدكم بهم، «تفسير القرطبي ج4، ص384». هذا غيض من فيض دروس عزوة بدر الكبرى ، وصلى الله وسلم على رسوله الكريم.