قلنا من الضروري أن نبني الثقة بين الحكومة والأحزاب السياسية لإنجاز مهمة الوفاق التي لا تزال تتعثر كثيراً وذلك بالابتعاد عن الرؤية الضيقة والأجندة الحزبية الخاصة ولست بحاجة إلى تذكير القوى السياسية حكومة ومعارضة بحجم الإشكالات التي تعاني منها البلاد في معظم مجالاتها السياسية والاقتصادية وفي الصحة وفي التعليم هذا الحقل الذي لحقه دمار كبير من جراء سياسات الإنقاذ التعليمية الارتجالية التي أثرت على عقول أبناء السودان الذي لربما أفقدنا جيلاً كاملاً أو حتى جيلين يفتقدون التأهيل الكافي لإدارة الحياة الاجتماعية لقد انتهى وقت المناورات من قبل الحكومة والمعارضة معاً والجميع يجب عليهم مواجهة الحقيقة بكل ما فيها من تداعيات كما يجب البعد كل البعد عن المكايدات السياسية ومراراتها، الحكومة الواجب عليها أن تعترف بأن الأحزاب مهما اختلفت توجّهاتها إلا أنها تحمل تصوّراً للحكم وللخروج من المأزق كما أنها أي الأحزاب تحمل مثل ما تحمله الحكومة من اهتمام بقضايا الوطن الكبرى وأمنه واستقراره وليس لأي أحد مقاس لمستوى الوطنية والتفاني في خدمة المصالح العليا فيه. كما يجب على الحكومة كذلك الابتعاد عن سياسة التخوين للمخالفين والاتهام بالعمالة والخيانة ومن ثبتت خيانته وعمالته فهناك قوانين كفيلة بردع من يخون بلده ويتآمر عليها فلا جدوى من استخدام آلات إعلامية لتحطيم بعض رموز الأحزاب في صراع سياسي من أكبر آفاته الإقصاء والإقصاء المضاد، الإنقاذ تعلم أن هناك أزمات كبيرة في البلاد ولا بد لها من حل ولا يمكن أن يقف الجميع يتفرج والبلاد تتناقص من أطرافها. الحكومة تطاول بها الزمن وقاربت فترة حكمها ربع القرن من الزمان وهي فترة ليست قصيرة، وقد استنفدت الإنقاذ كل أغراضها ولم تعد تملك شيئًا تقدمه لشعب السودان ونحن نفترض فيها حسن النيّة وصدق التوجّه إلا أن الظروف الدولية والإقليمية والمحلية لم تساعدها على إنفاذ مشروعها هكذا الدنيا والحياة، حدث هذا مع ثورات كثيرة بل حدث حتى مع بعض الأنبياء عليهم السلام فهذا نوح «عليه السلام أول رسول لأهل الأرض بذل من عمره في الدعوة ألف سنة إلا خمسين عاماً واتخذ كل الآليات والسبل في تبليغ الدعوة سراً وعلناً وأفراداً وجماعات وفي النهاية ما آمن معه إلا قليل حتى أمره ربه تعالى بوقف الدعوة والاتجاه لعمل آخر؛ لأن الله يعلم الغيب ويعلم ألا جدوى من الاستمرار في النهج الدعوي لنوح، ونحن لا نعلم الغيب لكن من خلال تتبع الحركة البشرية والنظم السياسية تأكدنا أن الإنقاذ لم تعد قادرة على فعل شيء إيجابي بمفردها لهذه البلاد بعد تأكيد الانسداد السياسي وبعد دعوة الحكومة نفسها للمشاركة السياسية من جميع القوى السياسية السودانية، والوضع ليس قاتم إلى الحد الذي لا يمكن معه الوصول إلى حلول بل هناك إيجابيات كبيرة ومهمة نبني عليها. يجب على القوى السياسية أن تتعامل مع القضايا الكبرى للوطن بجدية وواقعية، وعلى خلاف ما يظن البعض أن الحركة الشعبية لم تعد تسهم في وجود مخرج للبلاد من أزمتها وقد أصبحت قيادة الدولة أجنبية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍِ لذلك الارتباط بها والتعويل عليها في إحداث أي نوع من التغيير أو الإصلاح هو نوع من العبث ومضيعة للوقت هذا غير أن القانون يمنع ذلك في كل دول العالم وحتى الحركة الشعبية قطاع الشمال لن يكون لها دور في أي عملية تغيير أو إصلاح سياسي.. كما يجب على القوى السياسية أن تدرك أن مشروعها الذي أصبح بمثابة حلم صعب التحقيق في إسقاط النظام وتغييره بالقوة ليس سهلاً وأن ثمنه باهظ على الوطن والمواطن ولست بحاجة إلى تذكير المعارضة بأنها قد جرّبت كل الوسائل لإسقاط النظام بالقوة ولم تجد فتيلاً الآن هناك حقائق لا بد من التعامل معها كأرضية للحوار والحلول لمشكلاتها المزمنة ومن أهمها: 1/ أن الحكومة بعد ما يقارب ربع القرن من الزمان في حكم البلاد أدركت أنه ليس بمقدورها الاستمرار في هذا النهج الانفرادي ولن يستقر لها الحكم كما لم تستقر البلاد سياسياً ولا اقتصادياً مع هذا النهج في الحكم والدليل على ذلك اشتعال الحرب في جميع جوانب البلاد عدا الولايات الشمالية في الجنوب والغرب والشرق هذه حقيقة مهمة لدى المعارضة والحكومة معاً. 2/ والحقيقة الثانية هي إدراك جميع الأحزاب أنها عاجزة عن إسقاط النظام بالقوة العسكرية وإن ساندها العالم وذلك عن تجارب التجمع الوطني الديمقراطي أو عن طريق الحركات المسلحة في دارفور وجبال النوبة وغيرها. 3/ الحقيقة الثالثة إدراك الجميع أن الجنوب أصبح دولة مستقلة لها عضوية الأممالمتحدة ولا علاقة لها بالشأن السياسي الداخلي في السودان. هذه الحقائق من الأهمية بمكان أن نبني على ضوئها حوارنا الوطني والاتفاق حول كبريات الأمور لنخرج ببرنامج حد أدنى تخرج البلاد معه إلى بر الأمان. المؤتمر الشعبي أكثر الأحزاب تطرفاً في مواقفه مع الحكومة يجب أن يدرك أن كل القضايا التي اختلف فيها الترابي مع قيادات المؤتمر الوطني والتي قادت إلى المفاصلة الشهيرة كل هذه القضايا قد تم تنفيذها من قبل الحكومة خصوصاً انتخاب الولاة والمجالس التشريعية الولائية وبسط الحريات والتعددية الحزبية كل ذلك تم بالفعل فلا داعٍ للمرارات وروح التشفي والغل، والسودان الآن بهذا النهج الثوري في انتخاب القيادات من رئيس الجمهورية وحتى أعضاء المجلس التشريعي الولائي يعد سابقاً لكل الدول في العالم العربي والإفريقي وتبقى فقط الأزمة في كيفية إقامة الانتخابات على أساس الشفافية والنزاهة بتجنب الإكراه والإغراء الذي يسلب إرادة الناخبين وضرب الشورى في مقتل. يجب أن يدرك المؤتمر الوطني التنازلات عن بعض المناصب والمميزات والتخصصات والكل يعرف أن هناك بعض النافذين في القصر دائماً يحولون دون هذا الوفاق لتشبُّثهم بالسلطة إلى حد لا يمكن معه أي إصلاح سياسي تعددي حقيقي كما يجب أن نخفف من شهوة السلطة ويكفي أكثر من عشرين عاماً من ممارستها على الدماء والأشلاء في أجزاء كبيرة من هذا الوطن. لقد جلست إلى كثير من قيادات الأحزاب السودانية وتحاورت مع العديد حول وجود مخرج، فالأحزاب تعاني بشدة من ناحية الرؤية الثاقبة للمستقبل وهي مختلفة على كل الملفات إلا إسقاط النظام لكن ما بعد إسقاط النظام لا رؤية ولا إستراتيجية فهذه الحالة هي التي تحول دون إنجاز أي تقدم في طريق الإصلاح والتغيير.