بعد ما يقرب من ربع قرن من الزمان ظل فيها نظام الحكم الحالي على سدة الحكم، نجد صورة السودان تتسم بعدم الوضوح والشفافية وعلى كل الأصعدة!! أهم الأصعدة جميعًا هو الصعيد الاجتماعي، فالنظرة القبلية التي سادت في المجتمع أدت إلى هشاشة العلاقات الاجتماعية بين مكوِّنات ذلك المجتمع، وهذا مؤشر خطير على أمن وسلامة المجتمع، وهذا الأمر يقود إلى حروب داخلية بين القبائل وصراعات مدمرة، كما يحدث الآن في دارفور وجنوب السودان!! إلى جانب هذا يتأثر الاقتصاد تأثُّراً مباشراً، الأمر الذي يقود إلى انتشار الصراع حتى في المناطق التي لم تشهد هكذا صراع في شمال ووسط السودان، وهي المناطق التي انتشرت اقتصادياً واجتماعياً في كل أنحاء السودان!! من شمال ووسط السودان كان المعلم والتاجر والطبيب والمهندس والسياسي، الأمر الذي عمل على تقوية العلاقات الاقتصادية والاجتماعية بين شرائح المجتمع!! ولقد لعب الاقتصاد دوراً هاماً في تلك العلاقات، حيث ارتبطت البلاد بعضها ببعض تتبادل المنتجات، وتربطها خطوط حديدية لعبت الدور الأساسي في ربط البلاد اقتصادياً واجتماعياً، وحتى على نطاق اقتصاد الأسرة كان للسكة حديد دور أساسي، فقد كانت محطات السكة حديد سوقاً هاماً لمنتجات الأسرة!! افتقد السودان السكة حديد في سنوات الجفاف والتصحر، حين كانت المجاعة تفتك بالمواطنين في غرب السودان بينما تتكدس الذرة في مناطق الإنتاج لا تجد وسيلة لتقلها إلى المناطق المتأثرة بالجفاف والتصحر، في حين أن هناك خطاً حديدياً بين القضارف ونيالا والأبيض وغيرها من المناطق المتأثرة بالجفاف، وقد قامت أمريكا بعمليات نقل الذرة إلى تلك المناطق بالطائرات بما يعرف باركيل طلب من داخل السودان!! المجاعات أو الفجوات الغذائية كما يحلو تسميتها رسمياً هي نتاج سوء الإدارة وانعدام التخطيط الاقتصادي، ولن أجافي الحقيقة إن قلت إن بند الكوارث الطبيعية قد اختفى من ميزانية البلاد منذ أكثر من ثلاثين عاماً، فالميزانية توضع على افتراضات وهمية وليس على واقع معيش!! تقوى الروابط الاجتماعية والاقتصادية بين منطقة وأخرى بسهولة ويسر الوصول إليها وقد كانت وسيلة التواصل الاقتصادي والاجتماعي هي السكة حديد، وقد فات على كل الذين أداروا البلاد منذ الاستقلال حتى اليوم أن السكة حديد تمثل الرابط الاقتصادي والاجتماعي الذي تقوم عليه الدولة!! وحتى التخطيط الإستراتيجي العسكري يعتمد أساساً على النقل بالسكة حديد، ولم يذكر أو يتذكر أحد من الذين حكموا السودان أن الجندي البريطاني دخل السودان ممتطياً صهوة قطار، وفي أقل من ثلاثين عاماً من بدء الاستعمار كانت السكة حديد قد ربطت مناطق كثيرة في السودان، وحتى اليوم تظهر السمات العسكرية على السكة حديد في قرقول الشرف للمدير العام وفي الزي الرسمي، وقد كان مديرو السكة حديد حتى العام سبعة وخمسين بعد الاستقلال يحملون رتباً عسكرية، وللأسف بدأ إهمال السكة حديد وتدميرها عسكري وهو المرحوم جعفر نميري وتابعت الإنقاذ وهو نظام عسكري أيضاً عمليات التدمير الممنهج للسكة حديد!! تدهور خدمات المياه وغياب الراعي كان سبب هشاشة العلاقة بين مكونات المجتمع، فأزمة دارفور كانت المياه السبب الأساس فيها، فقد حدث في ثمانينيات القرن الماضي أن توقفت محطات المياه هناك بنسبة تفوق السبعين في المائة الأمر الذي أدى إلى الاحتكاكات بين الرعاة والمزارعين وقد تطورت الأزمة بسبب الإهمال الحكومي من أزمة مطلبية إلى أخرى أكثر تعقيداً «أمنية» وتعقدت أكثر فأصبحت سياسية وهذه قمة الخطورة على وحدة البلاد!! بسبب ندرة المياه وسوء أو غياب وسائل النقل «السكة حديد» أخذت الثروة الحيوانية تبحث عن مصادر للمياه والمرعى في الدول المجاورة، وقد ساعد على ذلك انتشار القبائل ذات الأصل الواحد في دول الجوار، وهذه الثروة تعود في شكل كماليات لا تعود للاقتصاد بفائدة!! في أوائل سنوات النهب المسلح كنت مهندساً في الهيئة القومية للمياه الريفية، كانت أي سيارة عابرة تتعرض للنهب ماعدا سيارات هيئة المياه التي على عكس ما يحدث للسيارات الأخرى تكرمها عصابات النهب المسلح، وحين تطورت الأزمة أصبح العاملون في هيئة المياه هدفاً من ضمن الأهداف!! سوء الإدارة وصعوبة النقل جعل من أهم محاصيلنا النقدية عرضة للتهريب، عدة دول من غرب إفريقيا تبيع في السوق العالمية الصمغ العربي السوداني دون أن تكون لهذه الدول شجرة هشاب واحدة!! النظام الإداري والسياسي والمركزي مع انعدام وسيلة التواصل وغياب الطرق حديدية كانت أم برية، مع نقل جوي يقتل كثيراً مما ينقل سبب أساس في هشاشة العلاقة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بين مكونات المجتمع السوداني، لهذا تجد الدعوة للانفصال صدى في نفوس الناس، وتقوي النعرات القبلية وتحل مكان القومية وهذا ما جناه النظام الحالي من حصاد!! الفهم الخاطئ للإسلام، أضر كثيراً بالمسلمين دون غيرهم، فالإسلام تنظيم للعلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يضفي عليها الروحانية التي افتقدتها، وأول مجتمع قام على هذا الأساس هو مجتمع المدينة والذي على أساسه قامت دولة المدينة كأول نظام سياسي واقتصادي واجتماعي في العالم منذ خلق آدم عليه السلام!! الاقتصاد الخالي من الربا والاحتكار والسوق السوداء، وعدم الأمانة في التعامل هو اقتصاد إسلامي، أكبر تجمع إسلامي في جنوب شرق آسيا وفيه اندونيسيا أكبر دولة إسلامية تعدادًا في العالم دخلها الإسلام عن طريق الاقتصاد «التجار المسلمين» الذين تعاملوا مع الأهالي بصدق كان مصدره الإسلام فأسلموا!! عاصمة الفلبين مانيلا كانت مركزًا تجارياً إسلامياً وكان اسمها آنذاك أمان الله نسبة لأمانة التعامل التجاري بين الناس وتحولت بمرور الزمن إلى مانيلا بعد أن تم دمج الكلمتين، وقد سألت كثيراً من أهل الفلبين عن معنى كلمة مانيلا في لغتهم وقالوا لي إن هذه الكلمة لا تحمل معنى في اللغة الفلبينية!! عاصمة بروتاي اسمها دار السلام وتم ترجمة الاسم إلى لغة الملايو إلى بندر دي باقوان، وهكذا تجد مدنًا كثيرة محوَّرة أسماؤها من اللغة العربية!! فالإسلام أثر إيجابي سياسي واقتصادي واجتماعي يضفي على المجتمع الروحانية التي افتقدتها الأنظمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الأخرى!! والمعاملة الإسلامية هي التي تربط المجتمع حتى وإن اختلفت دياناته ومعتقداته، الآن المجتمع الأوربي تقبل بترحاب كبير البنوك الإسلامية التوجه، على عكس ما يجري في بلادنا التي أعلنت قولاً لا فعلاً أنها إسلامية!! نعود إلى موضوعنا الأساس وهو هشاشة الروابط بين مكوِّنات المجتمع السوداني، والتي ما كانت لتبلغ هذه الدرجة من الهشاشة لو توفرت لها الخدمات الأساسية كالمياه والمراعي وخدمات التعليم والصحة وسبل ربطها بعضها ببعض، وأهمها السكك الحديدية والطرق البرية لتسهيل عملية نقل الإنتاج لبقية المناطق في الداخل وللتصدير!! كل هذا غائب وهذا يساعد كثيراً الذين يودون تقسيم السودان إلى دويلات دون أن ينفقوا شيئاً، كم أنفقوا لتقسيم العراق وأفغانستان واليوم في سوريا لو حسبناها لوجدناها عدة ترليونات أصابت العالم بأزمة اقتصادية سوف يترنح بسببها طويلاً، والنظام الحاكم فقد كل الإحساس بالخطورة كأنما نضج جلده من شدة الحريق فما عاد يشعر بألم، ولا سبيل لتبديل جلده حتى يحس بالألم إلا في الدار الآخرة!!