بعد تردد طويل، قررت أن أشاهد مقاطع من فيلم الفتنة الذي يسيء إلى الإسلام والرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وأعترف بأنني شعرت بالاشمئزاز والتقيؤ لما احتواه من تهجم رخيص، ولم أكن أتصور أن هناك إنسانًا يمكن أن يقدم على مثل هذا العمل، بغض النظر عن حجم أحقاده على هذا الدين الحنيف ورسوله، الذي يجسد رمز التسامح والإيمان واحترام ديانات الآخرين وأنبيائها جميعًا، الذين هم أنبياؤنا أيضًا. لا أريد أن أكرر هنا البذاءات، والتطاول الهابط، خلقا وفنا، لهذا الفيلم المفبرك المستفز، وأنا متأكد أنه لو شاهده الملايين من المسلمين في مختلف أنحاء العالم لكان رد الفعل الغاضب الذي شاهدناه في اليومين الماضيين من اقتحام للسفارات الأمريكية وحرقها مجرد نزهة، واحتجاج ناعم. من أنتجوا هذا الفيلم يعرفون ماذا يفعلون، وخططوا للفتنة جيدًا، وتوقعوا ردود الفعل الإسلامية والعربية الغاضبة؛ لأنهم درسوا النفسية الإسلامية، وحساسيتها تجاه هذا الأمر، مثلما وعوا جيدًا مكانة الرسول لدى مليار ونصف المليار من أتباعه في مختلف أرجاء المعمورة. الفتنة التي أرادوها، والضرر الذي خططوا لإلحاقه بالعالم الإسلامي ارتد عليهم، وعلى الولاياتالمتحدةالأمريكية حاضنتهم، وعلى دبلوماسييها وسفاراتها في مختلف أنحاء العالم. فإذا كان هدف هذه الفتنة إحداث شرخ وصدامات بين المسلمين والمسيحيين في مصر وبلدان عربية أخرى، فما حدث هو العكس تمامًا، وشاهدنا الأشقاء المسيحيين يتقدمون المظاهرات الاحتجاجية أمام السفارات الأمريكية، جنبًا إلى جنب مع أشقائهم المسلمين، ولا نبالغ إذا قلنا إن بعضهم كان أكثر غضبًا واستياءً. ومن المفارقة أن هذا الفيلم المسيء والمقزز وحّد جميع أبناء الطوائف الإسلامية، وأزال الخلافات والانقسامات التي استفحلت بينهم في الأشهر الأخيرة، على أرضية الأزمة السورية، وكان لافتًا أن العراقيين الأكثر انقسامًا، نزلوا إلى الشوارع، للتعبير عن غضبهم ضد الولاياتالمتحدة التي من المفترض أن تكون قد «حررتهم» من الديكتاتورية. أحد حراس القنصلية الأمريكية في بنغازي قال عندما سئل عن عدم دفاعه عنها والتصدي للمهاجمين الذين اقتحموها وقتلوا السفير وثلاثة من الدبلوماسيين الآخرين، إنه كان متعاطفًا مع هؤلاء، وإنه عندما يكون خياره بين المهاجمين المسلمين الغاضبين المحتجين على إهانة الإسلام والسفير الأمريكي وقنصليته، فإنه سيختار أشقاءه المسلمين، لأن ولاءه الأول والأخير للرسول، وليس للقنصلية وسكانها. ردة الفعل البسيطة العفوية هذه لا تفهمها السيدة هيلاري كلينتون، ولا معظم مراكز الأبحاث والدراسات التي تزعم فهمها لشؤون الإسلام والشرق الأوسط، ولهذا كان استغرابها من ردة فعل الليبيين الذين «حررتهم» قوات وطائرات بلادها وهجوم بعضهم على القنصلية كان مستغرباً أيضًا. المسلمون شبعوا إهانات ولطمات حتى تورمت خدودهم، فتارة رواية، وتارة ثانية رسوم كارتونية، وثالثة حرق كتابهم المقدس، ورابعة التبول على جثامين قتلاهم وشهدائهم، وخامسة احتلال أراضيهم، وسادسة دعم تهويد أقصاهم، وسابعة الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لدولة غاصبة محتلة فاجرة. نأسف لوقوع قتلى بسبب الأحداث الدموية وردود الفعل الغاضبة، مثلما نشعر بالحزن والألم لاقتحام سفارات يجب أن تكون آمنة ومحمية وفق العهود والمواثيق الدولية، ولكن أليس احتلال الدول وقتل مئات الآلاف من أبنائها انتهاكًا لهذه المواثيق أيضًا؟. نحن لا نبرر القتل، ولا نشجع الفوضى، ونطالب بأن تكون الاحتجاجات سلمية وحضارية في الوقت نفسه، ولكن كيف يتأتى ذلك عندما يكون جرح الإذلال عميقًا غائرًا نازفًا، ويكون أهله من المؤمنين البسطاء المسحوقين الذين لا يجدون لقمة العيش لأطفالهم؟. أليس من اللافت للنظر أن أعنف الهجمات على السفارات الأمريكية وقعت في عواصم دول تحررت من الديكتاتوريات وانتخبت حكومات إسلامية، تعبيرًا عن استيائها من سنوات القهر والهوان على يد حكام مدعومين من الولاياتالمتحدةالأمريكية مثل الرئيس المصري حسني مبارك والتونسي زين العابدين بن علي؟.. هذا الفيلم البذيء، سيء الإخراج والتمثيل، ربما يؤدي إلى صياغة جديدة لمفاهيم قديمة حديثة، وتحالفات جديدة، ويضع قوى حاكمة أمام اختبارات صعبة للغاية، وهي التي ما زال عودها طريًا، وأيامها في الحكم معدودة، وما زالت تتحسس طريقها وسط حقل من الألغام شديدة الانفجار، بعضها أمني، وآخر اقتصادي، وثالث عقائدي. لا أحد يستطيع أن يتنبأ إلى أين ستتطور الاحتجاجات، ومتى تتوقف، وحجم الخسائر السياسية والاقتصادية المترتبة عليها، ولكن ما يمكن التنبؤ به أن العالم الإسلامي لم يعد يسكت على الإهانات، فالشعوب الإسلامية يمكن أن تتحمل الجوع والبطالة، بل وحتى الحكام الديكتاتوريين الفاسدين، ولكنها لا يمكن أن تتحمل التطاول على دينها وعقيدتها ورسولها وصحابته الكرام. وسط زلزال الكرامة هذا الذي يجتاح العالمين العربي والإسلامي، وتتصاعد فيه ألسنة اللهب من السفارات الأمريكية والغربية، سيكتشف الحكام الإسلاميون الجدد ضخامة حجم مسؤولياتهم، وسيترحمون على أيامهم في المعارضة، فما أسهل المعارضة!.