كتبت: سارة شرف الدين عندما حزم حسين أمتعته واتجه نحو موقف مواصلات الولاية الشمالية كان ينوي قضاء أسبوع كامل لتصفية ذهنه من كل ما علق به من زخم في العاصمة وضغوط نفسية في العمل وذاكرته تستحضر لقطة جديدة من إجازته التي أمضاها برفقة المرحومة أمه قبل عشر سنوات في مسقط رأسها لكنه عندما وصل فوجئ بوجه جديد للمنطقه فلولا فروقات بسيطة لظن أنه لم يفارق الخرطوم! قصه حسين نموذج للتغيرات الكبيرة التي دخلت على الأرياف وأفقدتها نكهتها، فقبل سنوات كانت القرى تنام مع غروب الشمس ويحلو السمر عند قوز الرملة تحت ضوء القمر وتستيقظ صباحاً على رائحة الشاي المميزة بالقرقوش البلدي وتمنى نفسك بوجبة قراصة «بويكة» على الفطور وتتلذذ بغداء عبارة عن ملاح«كداد»، وتتعشى فطير باللبن بصحن إستيل ضخم وتأخذ حماماً بالجردل والطشت قبل أن تنعم بنوم هانىء بعد يوم حافل بالعمل في بستان الفاكهة والتجوال على ظهر إحدى الدواب من قرية لأخرى تدخل البيوت بانسيابية وحيثما تدخل تجد الأنس. تقول هويدا الحسن، عندما زرت قريتنا بعد طول غياب فوجئت بأزيز مكيفات الهواء يملأ الأفق وأصوات الفضائيات تطغى على الحديث مع الضيوف وغابت راكوبة الجدة عن باحة الحوش الكبير وأصبحت الحيطان شاهقة وأسمنتية لم تعد تجد رائحة الطين في أي مكان، عندما دعتني قريبتي لوجبة فطور شحذت أسناني لالتهام قراصة خمس بوصة قبل أن أصاب بخيبة أمل حين رأيت الخبز الآلي وطبق الفول وملحقاته في صينية خرطومية بحتة! وحكايات حسين وهويدا تطابق خيبات أمل كثير من زوار الريف الذي ترك خصوصيته ليجاري التطور من حوله فأصبحت كثير من مميزاته ذكريات، فهدير المحركات الكهربائية وصوت السيارات والمطابخ الحديثة جعلت من بساطته المخملية صورة مصغرة للعاصمة بكل زخمها، فهل تأتي استثمارات تعيد للريف رونقه في شكل قرى سياحية؟!