عقدت بالخرطوم في الأسبوع الماضي ندوة كان السؤال الأساسي فيها هو: ماذا يريد السودان من مصر الجديدة؟ وما لفت نظري فيها ليس موضوعها فقط، ولكن أنني قرأت تقريرًا عنها في صحيفة «الشرق الأوسط» يوم «9/9» في حين لم تشِر إليها الصحف المصرية، وحين سألت عن المصريين الذين شاركوا فيها، قيل لي إن أحدًا لم يحضرها من الباحثين المصريين، وإن السفير المصري بالخرطوم دعي إليها ولم يحضر.. ولم يتسنَ لي أن أتعرف على تفاصيل ما دار فيها إلا حين التقيت قبل أيام قليلة الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل القيادي في حزب المؤتمر الحاكم ووزير الخارجية الأسبق، وكان مع السيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة من بين المتحدِّثين الرئيسيين في الندوة، التي دعت إليها صحيفة «الأهرام اليوم» السودانية، وقد فهمت منه أن ندوة أخرى يفترض أن تعقدها جريدة «الأهرام» القاهرية لاستكمال مناقشة الموضوع. الخلاصة التي وقعت عليها في الصحيفة اللندنية والتي سمعت جانبًا منها من الدكتور مصطفى عثمان أعادت إلى ذهني ندوة أخرى دعت إليها كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في مصر قبل نحو ربع قرن، (في سنة 1989). وقد اشترك فيها آنذاك «35» باحثًا من أساتذة الجامعات والخبراء في البلدين، وافتتحها الدكتور بطرس غالي الذي كان حينها وزيرًا للدولة للشؤون الخارجية، وقد أصدرت الندوة كتابًا تضمن أعمالها جاء في «800» صفحة، ولا يزال يعد مرجعًا مهمًا في تحرير العلاقة بين البلدين، إن اتسمت الأبحاث فيه بالعمق والمصارحة الشجاعة، الأمر الذي لا بد أن يختلف من حيث الوزن إذا قورن بالندوة الصحفية التي عقدت مؤخرًا بالخرطوم.. مع ذلك فقد أثار دهشتي أنني وجدت أن بعضًا من الأفكار المهمة التي أثيرت منذ ربع قرن لا تزال عالقة لم يحسم أمرها حتى الآن، الأمر الذي يرجع في الأغلب إلى بعض رواسب التاريخ، فضلاً عن أن ثمة عقبات تعترض تعاون البلدين، سواء فيما خص إدارة العلاقة أو في الإرادة السياسية الحاكمة لها.. من ذلك مثلاً أن رصيد الثقة وحسن الظن بين البلدين على مستوى المثقفين خاصة، يحتاج إلى تعزيز، حيث يظن البعض أن لدى المصريين نظرة دونية تجاه نظرائهم السودانيين، وبالمقابل فلدى قطاعات من المثقفين اعتقاد بأن المصريين سلبيون ومستغلون ويفتقدون الشجاعة في مواجهة النوازل.. من ذلك أيضًا أن قضية السودان تعد مسألة أمنية من جانب مصر، وملفها يظل بعيدًا عن متناول الأجهزة والمؤسسات السياسية.. من ذلك كذلك أن الخلاف حول الحدود المشتركة المتمثل في مثلث منطقة حلايب يعطل المصالح المشتركة بين البلدين.. ولا أمل في حل الإشكال إذا أصر كل بلد على أن حلايب جزء منه.. والحل المطروح لفض التعارض أن يتحول المثلث إلى منطقة تكامل اقتصادي بين البلدين.. علمًا أن استمرار تعليق الموضوع يعطل افتتاح الطريق الساحلي الذي يفترض أن يصل الإسكندرية بكيب تاون في جنوب إفريقيا.. وهو مشروع حيوي وإستراتيجي من هذه الناحية، ما كان له أن ينتظر طويلاً.. من الأمور العالقة أيضًا مصير اتفاقية الحريات الأربع، المتعلقة بالدخول والعمل والتملك والإقامة التي وقعها السودان ولم توقعها مصر.. الأمر الذي يعني أن السودان يفتح أبوابه على مصاريعها للمصريين، في حين أن مصر لا تعامل السودان بالمثل. حدثني الدكتور مصطفى عثمان عن دور النظام السابق في دعم المعارضة الذي انتهى بتقسيم السودان إلى شمالي وجنوبي، وقال إن الرئيس الإريتري أسياسي أفورقي أبلغه يومًا ما بأن عناصر المعارضة التي قدمت إلى إريتريا ومارست منها نشاطها ضد حكومة الخرطوم تعمل بمساندة وتمويل المخابرات المصرية.. وكان هؤلاء هم الذين أطلقوا فكرة حق تقرير المصير التي انتهت باستقلال الجنوب.. وفي رأيه أن تقرير المصير يطرح حين تكون الشعوب خاضعة للاحتلال، ولا محل لها حين يتعلق الأمر بالمنازعات أو الخلافات التي تحدث بين مكونات الدول المستقلة. في ندوة الخرطوم الأخيرة قال السيد الصادق المهدي إن الوضع المستجد في مصر يوفر فرصة أفضل لتفاهم البلدين خصوصًا فيما تعلق بالعلاقة التكاملية بينهما. وأضاف أن الفجر الجديد في مصر يوفر رأس مال معنوي كبير لمصر والسودان، والسؤال هو في أي حساب يوضع ذلك المال المعنوي.. وتحدث البروفيسور صفوت فانوس أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم عن ضرورة تعاون المجتمع المدني في البلدين لأجل إزالة الحواجز النفسية بينهما.. وذكر الدكتور بشير رحمة القيادي بحزب المؤتمر الشعبي أن المرحلة الانتقالية التي يمر بها البلدان لا تسمح بإقامة علاقات إستراتيجية بينهما تقوم على أساس من الندية والاحترام المتبادل. أهم ما في الندوة الأخيرة أنها جددت الحوار حول ما هو مسكوت عنه في علاقات البلدين واستدعت ملفات ينبغي ألا تظل عالقة بين جارين وشقيقين بينهما أوثق الروابط. بالتالي فالسؤال ليس ما الذي يريده السودان من مصر، وإنما هو ماذا يريد كل بلد من الآخر.. وهو إذا كان مطروحًا في علاقة مصر بالسودان، فهو مطروح أيضًا وبنفس القدر فيما يتعلق بالعلاقة مع ليبيا.. الأمر الذي يستدعي ملف المثلث الذهبي في العالم العربي الذي لم ينَل حظه من الاهتمام رغم دوره الحيوي في مستقبل المنطقة.. أدري أن مصر مشغولة ومستغرقة في ترتيب البيت، لكنني أزعم أن أهل السودان وليبيا يجب أن يعاملوا بحسبانهم من آل البيت.