لم تكن من الحكمة والرأي السديد، مقاطعة أحزاب المعارضة لقاءً جامعاً كالذي حدث في بيت الضيافة مع رئيس الجمهورية للتفاكر حول وضع دستور للبلاد مساء يوم الأربعاء الماضي. تحالف أحزاب المعارضة الذي يضم حزب الأمة القومي والمؤتمر الشعبي والحزب الشيوعي وحزب البعث وأحزاب صغيرة يسارية وجهوية أخرى، استبق موعد الائتمار السياسي الكبير حول الدستور، وأعلن رفضه ومقاطعته له واستعصم بمعارضته، في خطوة جانبها التوفيق وحسن التقدير السياسي، وبُنيت على وسواس وهواجس لا معنى لها، في أمر هو حق للشعب السوداني الذي تمثله الحكومة والمعارضة وتتحدثان باسمه. فالدستور ووضعه وإقراره، ليس شأناً تنفرد به السلطة الحاكمة، بل هو عمل تشارك بين كل قطاعات الشعب وفئاته للتواضع على عقد سياسي يحكم العلاقة بين الدولة ومؤسساتها والشعب ومكوناته وسلطته، والأرض وساكنيها، في ثالوث التعريف بالدولة بأنها أرض وشعب وسلطة. ولم يكن اللقاء لتحديد قاطع لما سيكون عليه الدستور، إنما للتفاكر حول رؤية وطنية تلتقي فيها الإرادة الكاملة والتراضي المطلوب، حول كيفية وضع الدستور وتأسيس بنيانه وصرحه على توافق وطني وتقارب لا يمس الفواصل السياسية والحزبية والفكرية والاعتقادات المتخالفة. وهناك الكثير من التحديات تفرض على الجميع في الحكم وفي المعارضة للحفاظ على شعرة معاوية بينهما، ففي المنعرجات الوطنية والقضايا المصيرية...لا مجال للخلاف الحاد، ولابد من تقديم تنازلات هنا وهناك حتى يعبر الوطن أزماته وينصلح حاله وتتلاشى الأخطار التي تواجهه. توجد في البلاد أكثر من «73» حزباً مسجلاً، وربما أحزاب أخرى تعمل خارج قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية، وتتنوع هذه الأحزاب بين أحزاب كبيرة ذات وزن ثقيل وأحزاب صغيرة في وزن الديك أو الريشة أو الذبابة كما تقول لعبة الملاكمة، فمهما صغرت أو كبرت الأحزاب، فهي معنية بالشأن السياسي وترشيد الممارسة السياسية وتعبيد طريق للمستقبل تسير عليه الأجيال القادمة يجنِّب الوطن حلقته الجهنمية منذ الاستقلال بالتداول السلمي للسلطة والحرية السياسية الحقيقية التي لا تعرف ظالماً ولا مظلوماً. فمقاطعة أحزاب المعارضة للقاء التفاكري حول الدستور، ليس في صالح الوطن وتوافقاته المطلوبة في هذا الشأن وليس في مصلحتها هي، عندما فوتت فرصاً ثمينة لتقول رأيها بقوة وحرية كما قال الأمين العام للحزب الاشتراكي العربي الناصري الذي وقف وقال كل ما يريد وأعلن أنه معارض للنظام منذ 1989م ولا يرى في الدولة كما قال غير أنها دولة الحزب وليست دولة الوطن منذ قيام الإنقاذ، وقال رأيه بوضوح حول الدستور القادم وكيفية إعداده وتصوراته حوله وانتقد الأحزاب التي قاطعت وكانت له حجة قوية وداحضة بأن الدستور مسألة وطن ولابد في القضايا الوطنية الكبرى من تنادي الجميع. كان يمكن لأحزاب المعارضة أن تشارك، ومشاركتها لن تكون على الإطلاق عملاً لصالح الحكومة، ولا خصماً عليها هي كمعارضة، إنما يربح الوطن كله نقطة تلاقٍ واتفاق بين أبنائه لصياغة ما يؤسس الإطار الذي يحكمهم ويسكن آلامهم ويجعلهم قادرين على مواجهة التحديات التي تقف في طريق البناء والتقدم والتنمية. فإذا كانت الأحزاب المعارضة لا تشارك، فإنها حتماً في حال وضع دستور بديل للدستور الانتقالي الحالي، لابد لهم من التعامل وفق الدستور والقوانين المنبثقة والمتوافقة معه، فلا فكاك لهم منه، أفليس الأفضل هو المشاركة في هذا الأمر العام الذي يحكم الجميع والتراضي عليه أم نبذه ثم البكاء حين يقال « الصيفَ ضيعت اللبن..» ..!! وهنا لابد من الإشارة إلى أن حضور اللقاء من كل الطيف السياسي، لم يشعروا أن هناك شيئاً مصنوعاً معداً مسبقاً ويريد المؤتمر الوطني إصباغ شرعية على دستور موجود لديه أو مطبوخ وجاهز للتقديم. فخطاب الرئيس وطريقة إدارة الحوار خلال اللقاء بارتجالها وعفويتها، تؤكد أنه ليس هناك شيء تحت الطاولة... لم يحدد الرئيس في كلمته أي موجهات ولا توجيهات ترك الأمر كله للشعب وفئاته وقطاعاته وأحزابه السياسية ومنظمات المجتمع المدني وكل صاحب رأي والأكاديميين في الجامعات والمفكرين والمعارضين وحملة السلاح. للحوار والتفاكر حول قضايا الوطن والتراضي على دستور يحافظ على تراب الوطن وعقيدة الأمة... وقال بشكل قاطع إن الحوار حول الدستور لن يكون قاصراً على المجموعة التي حضرت سينداح الحوار الوطني الجاد لكل السودانيين بالداخل والخارج في المدن والقرى والفرقان والجامعات حتى تتوحد الأمة السودانية حول دستورها.. هذه سانحة للتعقل والنظر في مصلحة الوطن العليا الذي يتربص به أعداؤه من كل جانب، وإنجاز الدستور هو عمل وطني مخلص لا يحسب لحزب ولا لحكومة ولا لمجموعة، فإذا كانت الحكومة غير راغبة في القيام بهذا العمل وحدها ولا ينبغي لها ذلك وفتحت النوافذ ليتجدد الهواء في طقس الوطن المأزوم بخلافات أبنائه، فينبغي على الجميع أن يتحركوا خطوات في اتجاه بعضهم البعض، كفي هذا البلد تمزقاً وشقاقاً وتصلباً في مواقف لا تسمن ولا تغني عن جوع .. فإذا كانت الدولة قد وعدت والتزمت على لسان الرئيس في لقاء الدستور بتهيئة البيئة المساعدة على إنجاز الدستور وإشاعة الحوار ومدت يدها حتى لمن حمل السلاح ضدها، فمن واجب كل القوى السياسية الحفاظ على الروح الوطنية في أرفع مستوياتها لأن الدستور ليس عملاً حكومياً وأكبر من تركه للحكومة وحدها تفعل فيه ما تشاء .. هذا الوعاء يستوعب الجميع. ولا نحتاج أبداً أن نتخاصم في موضوع الدستور، كما أنه لا يمكن أن نتركه رهيناً بمواقف هؤلاء وأولئك وبأمزجة ومرارات من عارض وأبى..رغم قناعاتنا أن الشعب السوداني أكبر من أن تستوعبه الأحزاب السياسية وأنبل من أن تخطف إرادته حكومة أو معارضة.-- -- الرجاء إرسال التعليقات علي البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.