رغم الرفض العام لما جرى في بنغازي من استهداف لطاقم القنصلية الأمريكية، وكذلك عموم أحداث العنف عند السفارات الأمريكية وبعض الغربية، وهو رفض صحيح، فإن الغضب على أمريكا عاد ليحتل واجهة الأحداث من جديد في وقت اعتقد كثيرون أن المواقف قد بدأت تتغير إثر الثورة السورية، وقبلها عموم الربيع العربي، فضلاً عن تصدر روسيا لواجهة العداء بسبب موقفها المساند لبشار الأسد، التي احتلت مكانة متميزة في الواجهة المذكورة حتى طغى العداء لها خلال عام مضى على أي عداء آخر وسط حالة حشد مذهبي غير مسبوقة منذ قرون طويلة. لا خلاف في أن ما رددته الدبلوماسية الأمريكية خلال الأيام الماضية حول عدم مسؤوليتها عن الفيلم المسيء صحيحة إلى حدٍ ما، إذ أن الدولة لم تُستشر في الأمر الذي لا يعدو كونه مغامرة اجتمعت عليها دوائر قبطية «متصهينة» متطرفة مع مسيحي إنجيلي أكثر تطرفًا اسمه تيري جونز، لكن ذلك لا يغير في حقيقة أن هناك معايير مزدوجة في التعاطي مع مسألة الحريات بين ما يمس اليهود وقضاياهم، وبين ما يمس المسلمين. الأهم من ذلك أن انفجار الغضب ضد أمريكا لم يكن من اللون الذي تابعناه ضد الدنمارك مثلاً فيما خصَّ الرسوم المسيئة، أو سويسرا فيما خص قضية المآذن، بل تجاوزه نحو مواقف أكثر عنفًا إلى حد كبير رغم الرفض العارم لها. سبب هذا الغضب هو أن أمريكا لم تغادر مربع الدولة الأكثر عداءً لأمة العرب والمسلمين رغم تطورات العامين الأخيرين، والسبب هو أن سيرتها الطويلة مع الأمة ليست من النوع الذي يمكن أن يُنسى بسهولة، فكيف ومسلسل العداء لم ينته فصولاً بعد، ولا يبدو أنه سينتهي في المدى القريب أو المتوسط؟ ما ينبغي التذكير به في هذا السياق هو أن أهم سبب لعداء أمريكا في وعي العرب والمسلمين كان ولا يزال متعلقًا بالقضية المركزية لأمة ممثلة في قضية فلسطين، والذي لا خلاف فيه اليوم هو أن انحياز أمريكا للكيان الصهيوني ما زال يتصاعد على نحو ملحوظ في ظل هيمنة صهيونية على سياستها الخارجية، لاسيما الشق المتعلق بمنطقتنا. وعندما يزايد المرشحان الرئاسيان «أوباما ورمني» على بعضهما البعض فيما خصَّ قضية القدس حتى يضطر الأول إلى تغيير برنامجه الانتخابي خلافًا لبرنامج حزبه بإعلان المدينة المقدسة عاصمة للكيان الصهيوني، فإن ذلك لا يمكن أن يمر مرور الكرام في الوعي الشعبي، لا سيما أنه يأتي وسط عمليات تهويد محمومة للمدينة وسائر المقدسات فيها، بخاصة المسجد الأقصى. لا يتوقف الأمر عند القضية الفلسطينية، فاحتلال العراق لا يزال حاضرًا بقوة بما انطوى عليه من إهانة ثقيلة للوعي الجمعي للأمة، وبما انطوى عليه أيضًا من معاناة وتضحيات رهيبة، فضلاً عن منح البلد في نهاية المطاف، وإن جاء ذلك بحكم الاضطرار من أجل الفرار بأقل الخسائر. أفغانستان لا تزال هنا أيضًا، بينما تسرح طائرات أمريكا بدون طيار في سماء باكستان واليمن تقتل الناس بلا حساب للأرواح، ولا تسأل بعد ذلك عن المواقف السياسية التي تتعلق بدعم الأنظمة الفاسدة والسكوت على مصائبها بسبب خدمتها للأجندة الأمريكية. الموقف الأمريكي من الربيع العربي لم يكن كما يروج البعض داعمًا له، بل هو غير ذلك دون شك، ولو كان بوسع واشنطن حماية بن علي ومبارك والقذافي وعلي صالح لما ترددت لحظة، لكن طوفان الغضب الشعبي كان أكبر من أن يُقاوم. اليوم في سوريا، وفي حين يرى البعض أن روسيا هي أم المصائب، إلا أن الشهور الأخيرة بدأت تفضح حقيقة موقف الولاياتالمتحدة المنسجم مع المصالح الصهيونية في تدمير البلد وإشغاله بنفسه لعقود، وبات واضحًا أنها هي من يمنع تسليح الثوار السوريين بسلاح يعينهم على الحسم، وهي التي تضغط على تركيا والدول العربية للحيلولة دون ذلك. خلاصة القول هي: إن الفيلم المسيء لم يزد عن أن فجَّر مخزون العداء لأمريكا من جديد، وهو مخزون تصر واشنطن على الإبقاء عليه مزدحمًا عبر سياساتها العدائية ضد هذه الأمة، وأشواقها في التحرر والوحدة والنهوض. ماذا بعد: المرشح الجمهوري رومني يقول إن «العالم يحتاج لقيادة أمريكية، والشرق الأوسط يحتاج لقيادة أمريكية، وأنا أنوي أن أكون رئيسًا يؤمِّن قيادة تحترمها أميركا، وتبقينا محترمين في كل العالم». إذا فاز هذا ونفذ وعيده، فهذا يعني مرحلة أكثر عداءً بين العرب والمسلمين وبين أمريكا.