عندما أطلق المفكر الفرنسي جان جاك روسو صيحته داعياً الناس إلى الرجوع إلى الغابة وهجر المدن كان قد ضاق ذرعًا بحياة المدن التي في نظره - تسكنها أرواح شريرة قلقة همها المصلحة الشخصية الضيقة والانغماس في الملذات والماديات. مسكين روسو ، لم يدر أن العالم الآن قد تحول كله الي مدينة كبيرة. لم تعد هناك غابة يلجأ اليها. فباسم التصنيع والتحديث أجتُثت الغابات من جذورها وقامت في مكانها المصانع والطرق ومساحات الغابات البسيطة التي بقيت تلوث هواؤها بدخان المصانع وماتت الحياة في داخل الأنهار بفعل تدفق المواد الكيميائية وتراكم المخلفات العصرية. وكنت قد ذكرت من قبل أن معدل إزالة الغابات يبلغ فداناً كل ثانية ولكن آخر نشرة اطلعت عليها من مجلة «النيو سيانتست» تقول إن ذلك المعدل قد بلغ الأن خمسة فدادين كل ثانية. إن التغول الذي حدث أدى الى انقراض عينات كثيرة من الحيوانات والنباتات والعالم يتجة اليوم نحو التصحر الكبير بعد أن انقشع الغطاء النباتي وقلت الأمطار وابتلعت الكثبان الرملية معظم الأدوية وحتى زيادة الأمطار أصبحت كارثة مدمرة بعد أن زال الغطاء النباتي. في فيضان عام 1988 الذي اجتاح البلاد أفاق أهل العبيدية بالقرب من بربر على لافتة تحملها مياه النيل مكتوب عليها «مدرسة حمرة الوز الابتدائية». فتصور!! من أقصى شمال كردفان من دار الريح تنقل المياه تلك اللافتة فلا تجد شجرة أو تبسة أو أي شيء يحجز تلك اللافتة. فتظل في تدحرجها حتى تصل النيل فتجرفها المياه إلى الضفة الشرقية. ويقول لي الأخ الأستاذ الهادي شيخ الدين إنه ما زال يحتفظ بتلك اللافتة. إن المدن التي شيدها إنسان القرن العشرين لحضاراته مثل مدينة برازيليا عاصمة للبرازيل بدلاً من ريو دي جانيرو خلت من الخضرة والأشجار وارتفعت على شوارعها أبنية عالية من الأسمنت المسلح واستطالت حتى حجبت ضوء الشمس وتحول الإنسان إلى جرذ صغير معلب في سيارات فولكسواجن يبحث عن قوته بالتنافس العدواني والمصادمات والجريمة ثم حتى إذا هبط المساء انزوى بعيدًا مغرقًا همومه في المخدرات وعقاقير الهلوسة والجنس يطارده شبح الإيدز والهيربس ورصاص المافيا. أما بقية المدن المتمددة كالخرطوم مثلاً فقد انعدمت ملامحها وقامت فيها الأبراج والبنايات ذات الملمس المعدني «الكلادني» وتحول الناس فيها إلى كائنات تمارس الحياة بالقطاعي.. رزق اليوم باليوم ولا تعرف ما يخبئه لها الغد. وتفرح إن أعلن جزار أنه يبيع كيلو العجالي ب« 28» جنيهاً وتفرح أيضاً إن قرر غداً أن يبيعه ب«40» جنيهاً لأن معنى هذا أننا ما زلنا نملك عجولاً تُذبح. وأصبح صاحب الجزارة هو الذي يتحكم في فرح الناس وسعادتهم. فله من الأمة السودانية الشكر الأعم. وكذلك الشكر موصول لبائع الطماطم الذي لا يبخل علينا بفيتامين C في وقت تعزز فيه الليمون. اختلاط حابل الأمة السودانية بنابلها في غابات المدن أفرز أنواعاً عديدة من البشر من بينها: ناس تكشر وناس تبشر وناس تثرثر وناس تأشر ناس تشخر وناس تحمر وناس تمرر وناس تهجر وناس تكفر وناس تدستر وناس تطرشق وناس تبنشر **** ناس ملافح وناس عباية وناس بتسكن في السراية وناس غلابة بدون قراية وناس حفايا وناس عرايا وناس هي ماشة وناس هي جاية وناس قبيل عرفوا الحكاية وقدروا يوصلوا في النهاية واللي قاعد في الرصيف كل همو يجي الخريف. إلا ما يزيدوا الرغيف والموية ما تشيل الصريف **** ناس ورا ناس بتنده في اب شرا لو يكون راجل مرة برضو بنفع في الضرا ناس هلم وناس جرا قنطروهم قنطرة كيف بيعملوا يا ترى قاسوا الكلام بي مسطرة لقوهو ساكت مسخرة **** ناس هي مفلوتة وتشاكل وعاملة لينا جنس مشاكل والمحرش ما بكاتل وناس هناك في البيت تمارس لعبة الفار والكديسة والكديسة كلاما ماشي وأصلو ما مردود حديثا ولما ترجع للمكاتب تبدا تبحث عن فريسة **** ناس بجوة وناس ببرة قاعدة بس تعمل مضرة من زمان أدوها شرة حالة صعبة ومستمرة **** ناس بتزحم في الزحام والنشل مظبوط تمام وناس هي عايرة بدون لجام وناس بتشرح دون كلام اصلو الكلام بجيب كلام والناس بيسرحوا في الكلام **** ناس تركِّب في الزرارة وناس بتبحث عن وزارة قاموا شالوا البندقية وولعوا مليون شرارة *** ناس تشوف الفيل تبرى ضلو وناس تعشي التور بتلو وضلها الواقف محلو شكلو زي ود امبعلو ***** ناس شمارات ناس سفاسف ناس بتبحث عن مواقف ناس تدقدق في الرفارف وناس بتشحد حالا واقف **** ناس تفتش للزبادي الكان هنا واصبح بي غادي ولا حياة لمن تنادي **** الجميع في جوة غابة والبعيد عايز حرابة وسوبا راجياها الخرابة مين بيشعر بالغلابة ؟ *** وإنت بس قول يا لطيف لما الأمل يصبح ضعيف أصلو الهدم لو جابدوهو بنقطع في محل رهيف **** غايتو يا خوي خلي بالك اقعد بعيد ومشي حالك وشوف حتعمل فيها إيه لما ترجع لأم عيالك أما غابة جان جاك روسو التي طالب الناس بالرجوع لها فقد انعدمت والغابة الوحيدة التي بقيت ليهرب اليها إنسان القرن العشرين تكمن في داخله. ولكنها قد تكون غابات طلعها كرؤوس الشياطين إن زرعها ببذور القلق والتطاحن والشحناء وسباق الفئران. Rat Race . أكتب هذا وأستغفر الله لي ولكم. آخر الكلام: دل على وعيك البيئي.. لا تقطع شجرة ولا تقبل ولا تشترِ ولا تُهدِ هدية مصنوعة من جلد النمر أو التمساح أو الورل أو الأصلة أو سنّ الفيل وليكن شعارك الحياة لنا ولسوانا. ولكي تحافظ على تلك الحياة الغالية لا تتكلم في الموبايل وأنت تقود السيارة أوتعبر الشارع. وأغلقه أو اجعله صامتاً وأنت في المسجد..