أبلغ وصف سمعته عن اتفاقيات أديس هو ما قاله الأستاذ الضليع غازي سليمان حين وصف ما دار في أديس بأنه هدنة لكلا الطرفين لالتقاط الأنفاس!! نيفاشا كذلك كانت هدنة مدتها ست سنوات تم من خلالها الصرف على جيش الحركة الشعبية دون أن يدرك الشعب السوداني ماذا يفعل جيش غير ذلك الجيش الوطني الذي عرفه ومده بفلذات كبده منذ ما يقرب من قرن من الزمان!! بعد نيفاشا ظهرت عدة أنواع من الجيوش كان عددها أربعة الجيش الوطني وجيش الحركة والقوات المشتركة والقوات الدولية التي شاركت السودان السيادة على مطاراته، فكانت طائراته تهبط وتطير، وتُنزل وتقل من الركاب دون المرور بالجوازات كما يحدث في كل أنحاء العالم..!! حتى دخول وخروج المسافرين من القوات الأممية كان عبر البوابة الشرقية التي خُصصت لهذا الغرض..!! أي سلام هذا الذي يدعون ويرقصون طرباً لتحقيقه وأهم عنصر فيه بل وعماده وأعني بذلك الجيش السوداني تنازعه السيادة على الأرض ثلاثة جيوش أخرى ليست لديه سلطة عليها بل لا يعرف عنها شيئاً، بأكثر مما يعرف المواطن العادي، رغم أن الجيش الشعبي والقوات المشتركة تقاسمه ميزانيته التي يفترض أن تكون عوناً له لتحقيق السيادة وبسط الأمن على أرض السودان..!! هذا الأمر زعزع الأمن القومي للحد البعيد، فقد تم سحب الجيش السوداني من جنوب السودان وهو رمز سيادة السودان على أرض الجنوب، وبهذا نال الجنوب استقلاله منذ اليوم الأول لتوقيع نيفاشا قبل ست سنوات من إعلان الاستقلال، وسياسيو السودان بارعون في إيجاد الشماعات التي يعلقون عليها أخطاءهم فوجدوها في صحيفة الإنتباهة التي زعموا أنها سبب الانفصال!! والانفصال يُسأل عنه من وقعها، ومن رقص طرباً لها، والذي قبل طائعاً مختاراً أو مجبراً على التخلي عن السيادة على جنوب السودان بموافقته سحب الجيش السوداني من أراضيه، فإن ذلك يعني منذ اليوم الأول «التاسع من يناير 2005م» أن جنوب السودان أصبح دولة ذات سيادة يفرضها الجيش الشعبي، الذي قاسم طوال فترة هدنة نيفاشا الميزانية مع الجيش الوطني حامي حمى الأرض والعرض!! بعد كل هذا كان الرهان على الوحدة، وهو أمر غريب وينبئ عن سذاجة سياسية منعت النظام من تحليل الوقائع على الأرض واستنتاج ما يمكن أن يحدث من نتائج، وانطبقت على النظام وفرقة نيفاشا للفنون السياسية المقولة التي تقول «من لا يصنع قراره لا يصنع مصيره بل يفاجأ به»..!! وهكذا يعيش السودان وترسم سياسته بناءً على هذه المفاجآت.. ويبدو أن الاتفاقية القادمة أو بالأصح الهدنة القادمة ستكون تحت مسمى أم أربعة وأربعين كما بشرنا الأخ إدريس عبد القادر!! وهذا حديث ينافي مبدأ الشورى الذي يرتكز عليه النظام الإسلامي «وأمرهم شورى بينهم»، حتى المولى عز وجل قدم لنا مثالاً رائعاً لذلك حين عرض على الملائكة «إني جاعل في الأرض خليفة» وكان حواراً رائعاً وصفه القرآن الكريم في كريم آياته، وأثبت لهم المولى عز وجل صحة ما يفعل وهو الذي لا يُسأل عما يفعل!! ومبدأ الشورى بدأ يمارس في الأرض حتى قبل نزول أول إنسان عليها وهو آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فكيف يتسنى للبعض فرض أم أربعة أو أم أربعة وأربعين؟ قانوناً هذه الاتفاقية غير ملزمة وهي كما ذكر القانوني الضليع الأستاذ غازي سليمان يجب أن تخضع للقانون الدولي في البنود التي تمس القانون الدولي، أما الحريات الأربع فيردها القانون الدولي إلى القانون الوطني، فإن رفضها حسبما تشير المواد فيه فهي مرفوضة بنص القانون الدولي!! لم تبحث الاتفاقية أهم بند يقوم عليه كل الذي تم الاتفاق عليه وهو الأمن..!! وثاني أمر يقوم عليه هذا الأمن هو الحدود التي لم يتم بحثها.. ونظرية الأمن القومي تقول إن الأمن القومي لأي بلد يبحث عنه خارج الحدود، والحدود غير معروفة حتى يتم البحث عن الأمن خارجها، وبهذا يصبح الحديث عن الأمن مجرد خواء لا طائل منه..!! رغم أن هذه الحدود واضحة وضوح الشمس لدى المواطن العادي وغائبة عن المحاور أيًا كان، وهذه أعطت أمبيكي الحق لرسم خارطته والتي بنيت على مزاجه الخاص، كما أعطت لجنوب السودان أن يرسم هذه الحدود لا بعمليات المساحة المعروفة لدى العالم إنما بالدبابات، آخذة في الاعتبار المقولة الشهيرة لبني غريون أن حدود إسرائيل ترسمها الدبابات!! وكم خبير عسكري إسرائيلي كان يضمه جيش الحركة الشعبية حين تمرّد، وكم من دبلوماسي استخباراتي يتجول الآن في شوارع جوبا؟! لم يحدث في العام إن كانت الحدود بين دولة وأخرى مجاورة منطقة عازلة منزوعة السلاح والسيادة، حقاً أننا نحكم بالمفاجآت!! كيف يمكن لتعاون اقتصادي أن يقوم دون أمن يحرسه؟! وكيف يتم التواصل الاجتماعي وكل من المتواصلين يحمل بندقية هذه مواجهة وليس تواصلاً..!! ما الذي يمكن أن يحدث في المنطقة العازلة والتي لا سيادة عليها لأي من أطراف النزاع، ستكون منطقة فوضى متناهية وستكون هذه الكيلومترات كيلومترات الرعب بالنسبة للقوافل التجارية والاقتصادية بشكل عام!! ويبدو أن الاتفاقية تحسبت لهذا الأمر فكانت الحريات الأربع هي الحل فبدلاً من نقل الغذاء إلى شعب جنوب السودان، أجازت استيراد هذا الشعب للسودان لإطعامه وهو آمن، وهذه الأولى من نوعها حيث يستورد شعب إلى دولة أخرى بدلاً من تصدير الغذاء إليه. وهل سيتحمل الاقتصاد السوداني هذا؟! ذلك الاقتصاد الذي وصفه بنشرجي المالية بأن إطاراته مطرشقة؟! في هذا الجو الاقتصادي تنمو الجريمة في المجتمع، خاصة أن الوافد الجديد القديم لم يكن لديه «ولن يكون» ما يخسره، فقد عاش في رعب في بلده وذلك ما أقرته أمنيستي انترناشونال «منظمة العفو الدولية» في تقريرها عن الأعمال الوحشية والنهب التي يقوم بها الجيش الشعبي تجاه مواطني دولة الجنوب..!! والإنسان بطبيعته ينقل ما يعرف، فإن عرف العنف مارسه، وإن عرف النهب مارسه كذلك وإن عرف المرض نقله، وكل هذه عوامل تطيح بالأمن الاجتماعي، والتكوين الديموقرافي لذلك المجتمع!! يحدث كل هذا في مجتمع نخر فيه الفساد، وكثرت فيه العطالة، يتصرف فيه الحكام وكأنه ملكية خاصة يفعلون فيها ما يشاءون واضعين أنفسهم دون حق في مرتبة لا يسأل عما يفعل والعياذ بالله!!