إن تحصين الداخل السوداني من مخاطر السلام مع دولة الجنوب أمر تفرضه معطيات الواقع، فالسلام رغم أنه جاء في اتفاقية التعاون المشترك ويحتوي على الكثير من النواحي الايجابية، إلا أن عدم التوصل لحل كل القضايا العالقة يشير إلى عدم توفر الثقة لدى الطرفين، مما يدلل على نسف العملية السلمية برمتها. فإن أهم محاور الخلاف تظل عالقة، فقضية الحدود وأبيي ووضع رؤية متكاملة للترتيبات الأمنية يعطي إشارات غير إيجابية خاصة من الحركة الشعبية التي ظلت تراوغ لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية، تاركة ملف الحدود والحركات المتمردة المسلحة ضد السودان دون تقديم حلول لإنهاء الصراع، ولخلق بؤر نزاع تؤمن بها مواقفها التفاوضية في المراحل القادمة.وهذا يشكل أكبر عقبة أمام إيجاد تسوية توفر بها جوار آمن بين الدولتين، ويبدو أن حكومة الجنوب قد أشار عليها أصحاب المصلحة الحقيقية بعدم التوصل لحلول نهائية، حتى يتسنى لهم تمرير أجندتها في استنزاف السودان اقتصادياً وأمنياً، فالترتيبات الأمنية التي جاءت في الاتفاق الأخير فيها شيء من الضبابية، فهي لم تتحدث صراحةً عن دور الجنوب في إنهاء نشاط المجموعات المسلحة، وفك ارتباطها بالجنوب في فترة محددة ووفق آلية مشتركة. وقد ظهر مفهوم الأمن لدولة الجنوب وتحددت أبعاده من خلال ما تم، ويهدف إلى كسب الزمن لتحقيق أهداف مرحلية تتعلق بالضغط الداخلي والمجتمع الدولي رغم عدم حياديته. ولهذا جاء السلام مشوه المعالم فاقداً للمناعة الطبيعية. وهذا ما يهدد الأمن والاستقرار في السودان، خاصة إذا ما نظرنا لما يسمى بالحريات الأربع والهجرة المتوقعة شمالاً، مع إمكانية حرية الحركة التي تتيح للحركة زرع أكبر جهاز استخباراتي وخلايا يمكن أن تنقض على الدولة ومؤسساتها وسكانها.فالحدود الممتدة من منطقة أم دافوق غرباً وحتى الحدود الإثيوبية شرقاً، تظل بوابة كبيرة لعبور الاسلحة لتقويض أمن الدولة السودانية إذا ما تم نقض الاتفاق، وهذا يتطلب وضع استراتيجية دفاعية مع معطيات الواقع، خاصة إذا عرفنا الدور الكبير الذي تضطلع به إسرائيل في الجنوب ونواياها تجاه السودان، إضافة الى عدم وجود ارادة سياسية راشدة لدى الحركة الشعبية. وإذا كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية تدافع عن أمنها القومي خارج مجالها الجغرافي، فلماذا لا يدافع السودان عن أمنه القومي داخل مجاله الجغرافي، فمن المفترض إيجاد خط أمني داخل الجنوب على امتداد الحدود لتثبيت ركائز الأمن ومواجهة أي اعتداء على العمق السوداني نتيجة متغيرات غير معروفة في سياسة دولة الجنوب أو المجموعات المتفلتة من الجيش الشعبي أو الحركات المسلحة التي تتخذ من الأراضي الجنوبية قواعد لها. أما الوجود الإسرائيلي والأمريكي في المنطقة وما يمثله من تهديد حقيقي لأمننا القومي واستراتيجيته المعلومة لتجزئة السودان، فإنه يجعل من الضروري أخذ الحيطة والحذر. وما تم أخيراً من تسريب أسلحة بكميات مهولة إلى مناطق في شرق السودان تحديداً، يؤكد النوايا المرسومة في خطط الغرب والكيان الصهيوني لإحداث خلل أمنى يؤدي إلى خلق مناطق نزاع، وكذلك في منطقة دارفور التي تعتبر حجر الزاوية لما تمثله في منظومة أطماعهم لإيجاد موطئ قدم في الإقليم المطل على غرب إفريقيا، للاستيلاء على النفط والمعادن الثمينة، وتحقيق أهدافهم لمحاربة الإرهاب، وليس لديهم غير دولة الجنوب وعملائها في قطاع الشمال والجبهة الثورية لتحقيق تلك الغايات. وعلى الرغم من أن دولة الجنوب ناشئة وصغيرة، إلا أن ميزان القوة العسكرية مرشح للصعود بفضل الدعم الإسرائيلي والأمريكي، وفي فترة وجيزة، وربما يكونون قد نوهوا إليهم بأهمية التوقيع مع السودان على هذا الاتفاق لتحقيق العديد من المكاسب، وأهمها الاقتصادية التي سترفع معدلات النمو، وتمكن الدولة الوليدة من توفير الإمكانات العسكرية وانشاء البنى التحتية للقواعد الحربية الأجنبية. وكل ذلك يدعونا إلى أن نتحسس مواقع الخطر على السودان وأمنه القومي، وإعداد الجاهزية لكل الاحتمالات المستقبلية. ففي النظريات الأمنية قد تكون هناك حاجة إلى نقل الهجوم إلى أرض الخصم، وتنفيذ سياسة الدفاع الاستباقي، والتعبئة العامة وسط القوات لإشعار العدو بالجاهزية لكل اختراق أمنى على أرض وسيادة البلاد. وهذا يتطلب من القيادة العسكرية والأمنية أن تغلق الباب أمام المخاطر المتوقعة، بحشد إمكاناتها الدفاعية والهجومية في خطوط المواجهة، حتى تتوفر الثقة لدى الطرفين. والتحسب لقيام حرب بالوكالة عن دولة الجنوب تقوم بها الحركات المسلحة وقطاع الشمال، ويظهر فيها الجنوب بدور المسالم أو الوسيط، في حين أن التخطيط والإمداد يأتي من العمق الجنوبي. إن انتشار القوات المسلحة في مناطق عديدة على طول الشريط الحدودي سيرهق إمكانات الدولة مادياً، إضافة إلى صعوبة تغطية كل المحاور، لذا يجب الاستعانة بالجبهة الداخلية من القوات الشعبية في القرى والقبائل المتاخمة للحدود، للاستفادة منهم في سد الثغرات والحفاظ على أرضهم وممتلكاتهم، لتبقى القوات الرسمية في نقاط ارتكاز معلومة بكل امكاناتها. إن الصراع مع الجنوب سيكون صراعاً حول قضية تعارض المصالح، وخلافاً على الحدود والنفط وقضايا أخرى، وسيظل الخلاف قائماً ما لم تع دولة الجنوب أهمية السودان بوصفه عمقاً استراتيجياً وأمنياً لمصالحها ومستقبلها، حتى تصبح دولة ناجحة تهتم ببناء وطنها ورفعة شعبها.