تطرح الأربعائية كل أسبوع موضوعاً حياً تتناوله بجدية وعمق، وتتميز موضوعات الأربعائية بجرأة الطرح، وعمق التناول، والبعد عن القوالب الجاهزة واجترار مقولات الآخرين، وهذا ما يجعل الموضع متجدداً يكتسي طابع الأربعائيين وإن كان من الموضوعات المتداولة بكثرة موضوع المصطلحات، وقد أدار الندوة الأستاذ على عبد الوهاب، وقدم الورقة الرئيسية الأستاذ الشاعر محمد عبد الله حرسم، عقب عليه سيف الدين عيسى مختار، وإليك عزيزي القاريء أهم ما دار في الندوة: في بداية حديثه أكد علي عبد الوهاب أن موضوع المصطلحات يعتبر من أهم الموضوعات ذات العلاقة المباشرة برقي وتقدم المجتمعات المعاصرة، وبدأ استخدام المصطلح كسلاح في معركة الخير والشر مع إبليس عليه لعنة الله، فقد كان إبليس أول من بدأ حرب المصطلحات عندما أراد إغواء آدم وحواء عليهما السلام، فغير اسم الشجرة التي حذر الله آدم وحواء منها إلى «شجرة الخلد»، ونجد في عالمنا المعاصر مصطلحات مثل العولمة، النظام العالمي الجديد والديمقراطية، والثيوقراطية وحقوق الانسان، والمجتمع الآمن وتجفيف منابع الإرهاب، والميتافيزيقية، والقرار العالمي والمقصود به قرار خمس دول للتحكم في مصير أكثر من مائتي دولة، والهدف من كل هذه المصطلحات التي تبث إحكام السيطرة والهيمنة على العالم، وخاصة العالم الإسلامي، وهدفها إبعاد المسلم عن عقيدته السليمة حتى يصبح ليناً مطواعاً لكل مخططاتهم الإمبريالية، وإشاعة التفسخ والانحلال عن طريق تبسيط الأمور وتغيير المسميات حتى تبدو مقبولة لدى المتمسك بتقاليده وعقيدته، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك في مؤتمرات الإسكان حيث نادوا بالمساواة الكاملة بين الرجال والنساء في الحقوق والواجبات بغض النظر عن الفروقات البيلوجية، وقاموا بتلطيف المحرمات بنفس منهج وطريقة إبليس اللعين لكن بقاعدة ومصطلحات معاصرة.. من جانبه، علق محمد عبد الله حرسم بقوله إن أول ما لفت انتباهه إلى موضوع المصطلح المناقشة التي تمت بيني وبين أحد أساتذة العلوم في المدرسة الثانوية التي كنت أدرس فيها، فقد أشار الأستاذ إلى أن أصل الإنسان قرد، اعترضت عليه قائلاً: هل تؤمن أنت كمسلم بأن آدم هو أصل البشرية؟ قال نعم.. قلت: لماذا تذكر لنا أن أصل الإنسان قرد، قال تلك نظرية دارون «أصل الأشياء» قلت و لماذا تدرسنا نظرية دارون، وصادف أن أحد الأساتذة الانجليز كان يتابع هذا الحوار، وحوار مماثل جرى بيني وبين أستاذ مصري كان يدرسنا مادة الكيمياء، فقد ذكر أن الماء يتكون من الأكسجين والهيدروجين فاعترضت على حديثه، إذ لو كان ذلك صحيحا لأصبح الفضاء كله ماء، وهنا ذكر لي الأستاذ الانجليزي بأن الطالب مثل الجك «أبريق الماء» يعبأ بما يراد له أن يستوعبه ليفرغ في النهاية ما أريد له أن يستوعبه، تلك هي السياسة المتبعة في التربية. من الأمور الأخرى التي لاحظتها استخدام مصطلح الفتح والاستعادة في وصف حملة كل من محمد على وكتشنر عوضاً عن مصطلح غزو، فمحمد على غزا السودان، وكتشنر فعل نفس الشي، لكنهم درسونا على أنه استرجاع السودان، وكأنه استعاد حقا لهم سلبه المهديون0 ثم التقيت في اتحاد الفنانين السودانيين بالأستاذ سعد يوسف مدير كلية الدراما والمسرح الذي ألقى محاضرة عن المسرح في السودان والمسرح السوداني، والفرق بين المصطلحين، قلت له: إذا اتفقنا على ماهية المسرح بالتعريف الأرسطي للمسرح، فإننا قد لا نتفق في تحديد «السودان»، لأنه لم تكن لدينا مواصفات محددة عن ماهية السودان في ذلك الوقت، بعد ذلك استمعت إلى حديث للدكتور صلاح فرج الله - وكان يشغل منصب وكيل وزارة الثقافة والإعلام- عن الثقافة السودانية، ودار بيني وبينه نقاش مستفيض حول مصطلح الثقافة الذي كنت أظن أنه يستخدم لتجزئة الإنسان، وكنت أرى أن الإنسان حياة لا يمكن أن يتجزأ، فهو داخل اللحظة الواحدة يوجد فيه السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، ثم سألني عن تعريفي للمثقف، فقلت هو الإنسان المدرك لما حوله، الواعي لهذا الإدراك الموظف لهذا الوعي، حياة الإنسان داخل هذه الكلمات الثلاث، فنحن لسنا مفوضين لممارسة نفس العمل الثقافي ومهمتنا التمرد على هذه المصطلحات ووظيفتنا أن نثير التساؤلات ونحرك الساكن، لأننا إن لم نتمرد والحديث لحرسم على المعتاد فسنقبل الواقع كما هو دون السعي إلى التغيير أو التطوير0 فمن منا يعرف الاسم القديم لمدينة تل أبيب؟ هذه المدينة الفلسطينية التي كانت تسمى تل الربيع، فقد ظل الإعلام الإسرائيلي يردد اسم تل أبيب حتى محا اسم تل الربيع من الذاكرة تماماً، وهناك منظمة يهودية تصرف ملايين الدولارات لتثبيت مصطلحات بعينها بشكل مزعج للغاية مثل الجندرة والعولمة، عرب ثمانية وأربعين، الإرهاب، الديمقراطية، والتي الهدف منها تشكيك الناس في عقائدهم، وهي تستخدمها بذكاء شديد، ليس لدلالتها المعجمية فحسب، بل لأنه يأتي من ورائه عالم كامل من المفاهيم والآيدلوجيات. بينما أشار الطيب يوسف جميل إلى أن المصطلح وتحديده بدأ لغاية سامية وهدف نبيل في العقائد، لكنه انحرف الآن وأصبح يوظف لتحقيق نتائج كارثية ويجب علينا التركيز على التعريف الصحيح، والفرق بين المصطلحات والمفاهيم؛ فالمصطلحات أصبحت الآن أساس كل العلوم الاقتصادية والسياسية والعسكرية وغيرها، ويجب وضع مدلولاتها الصحيحة حتى نخرج بنتائج موضوعية، فالمسائل العلمية لا تحتمل الاجتهادات، بل تتطلب توفير المعلومة الصحيحة من مصادرها الموثوقة. ويرى سيف الدين عيسى مختار أن إثارة هذا الموضوع يأتي وإعلامنا العربي يعاني بشكل عام، والسوداني بصفة خاصة من حرب مصطلحات ضروس زعزعت الثوابت وأشعلت الفتن بين أبناء الوطن الواحد، وعلى الرغم من طغيان وهيمنة العامل السياسي على الندوة إلا أن مسألة المصطلح أعمق من ذلك بكثير، فهو سمة العصر الذي أصبح ينزع إلى التخصص بغرض تجويد الأداء في كل ناحية من نواحي الحياة المختلفة، فالمصطلح هو«العلم الذي يعنى بدراسة المفاهيم الخاصة بمجال علمي أو تقني معين والمصطلحات التي تعبر عنها» وهو بذلك يهدف إلى البحث عن مصطلحات تستعمل في مجال محدد، ودراستها وتحليلها ووصفها، وإن اقتضى الأمر، وضع مصطلحات جديدة للدلالة على مفاهيم ما استحدثت.. وكان معنى المصطلح في التراث العربي الإسلامي هو اتفاق طائفة على وضع اللفظ بإزاء المعنى، لذلك تجد في كل صناعة مصطلحات خاصة بها إذا سمعها منْ هو غريب عنها لم يعرف المراد منها. وقد نشط العلماء المتخصصون في العصر الحديث في تحديد المصطلح مواكبة للتطور السريع الذي يشهده العالم الغربي، وهو محور صناعة المصطلحات الحديثة في كافة العلوم، ومن أولئك العلماء المتخصصين في علوم المصطلح اذكر على سبيل المثال لا الحصر الدكتور مصطفى الشهابي، والدكتور محمود فهمي حجازي والكثيرين، ثم جاء الدكتور ممدوح خسارة ليجمع ما تفرّق ويوجز ما أطنب فيه غيره، فوضع كتاباً شاملاً في بابه سماه «علم المصطلح وطرائق وضع المصطلحات في العربية»0 وعلى الرغم من أن رسالة الإسلام بدأت بتحديد المصطلح بشكل دقيق واستحدثت مصطلحات لم تكن موجودة من قبل، مثل الوضوء والصلاة والزكاة الأمر الذي مكن العالم الإسلامي في العصرين الأموي العباسي من ريادة العالم وقيادته التي كانت موجودة بمفاهيم مختلفة في الجاهلية، إلا أن الأمة تخلفت بسبب تحولها إلى أمة مستهلكة للمصطلح بعد أن كانت منتجة له، ولعل من أسباب فرقة العرب عدم اتفاقهم على المصطلحات، فمعجم اللغة العربية من أغنى وأوسع المعاجم على الإطلاق، وبعض الكلمات قد تكون مهملة في مناطق وحية في مناطق أخرى، مثل العمل والشغل، الزربية والسجاد، والعطالة والبطالة، ورأينا كيف استخدمت المحكمة الجنائية فوضى المصطلحات عندما جاءت ببعض النسوة من دارفور لا يفرقن بين مصطلح «الاغتصاب» و«الغصب» فبنت على ذلكم حكمها بوجود جرائم اغتصاب وجرائم ضد الإنسانية، وهو الحكم الذي يعاني السودان من ويلاته حتى يومنا هذا.. ومن الخلط في تحديد المصطلح ما نراه في مصطلح الخطاب عند البعض الذي يرجع المعنى إلى الخطابة، والذي هو طريقة التخاطب والتواصل مع الآخر، أما اصطلاحا فهو سلسلة من الملفوظات التي يمكن تحليلها باعتبارها وحدات أعلى من الجملة تكون خاضعة لنظام يضبط العلاقات السياقية والنصية بين الجمل. وإن تأملنا كتب علم مصطلح الحديث، لأدهشتكم تلك المكانة الرفيعة التي بلغها علماء الحديث في ضبط وتحديد كافة مصطلحات الحديث، وربما أشكل على البعض فهم بعض تلك المصطلحات، فيعتقدون مثلاً أن الحافظ ابن كثير المحدث والمفسر والعالم أطلق عليه لقب الحافظ لحفظه للقرآن الكريم، والحقيقة أن الحافظ درجة من درجات رجال الحديث وهو من أحكم ضبط وحفظ وأحكام مائة ألف حديث نبوي، والحاكم أعلى درجة من الحافظ وهو من أحكم ضبط وحفظ ثلاثمائة ألف حديث، أما الحجة فهو من حفظ وأحكم ضوابط جميع الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.