جدة، عروس البحر الأحمر، أو بوابة الحرمين الشريفين، مدينة يتنفس التاريخ في أزقتها وحواريها القديمة، وهي حاضرة الحجاز وملتقى قبائل العرب وموئل زوّار بيت الله الحرام، كل يناديها بما يعتمل في دواخله من عشق لها، فأهلها يضمون جيمها، وأهل السودان والساحل الغربي يفتحون جيمها، وأهل نجد وما جاورها يخفضون، فالذين ينطقونها بكسر الجيم يستندون في ذلك إلى أن «جِدة» إنما سميت بهذا الاسم نسبة إلى شيخ قبيلة قضاعة ,وهو « جِدة بن جرم بن ريان بن حلوان بن علي بن إسحاق بن قضاعة »، فيما الذين يضمون يستندون الى إن أصل التسمية لهذه المدينة هو « جُدة » والتي تعني حسب اللغة العربية شاطئ البحر أو الممر بين الجبال، وهي التسمية التي يذكرها ياقوت الحموي في معجم البلدان وابن بطوطة في رحلته.. لكن الفريق الثالث الذي يقول بفتح الجيم يرجعها إلى الجَدة والدة الأب أو الأم، لأن من المؤرخين من ينسب هذه المدينة إلى حواء أم البشر والتي يعتقد أنها دفنت في هذه المدينة التي نزلت إليها من الجنة، بينما يقال إن آدم نزل في منطقة تسمى كتماندو بالهند « , والتقيا عند جبل عرفات، ودفنت هي في جَدة. وتوجد الآن مقبرة في المدينة تعرف باسم مقبرة أمنا حواء إلى الشرق من مبنى وزارة الخارجية»، وقد دارت مناظرات أدبية على صفحات الصحف السعودية وخاصة جريدة عكاظ استمرت أكثر من عام بين العديد من أدباء وعلماء المملكة حول نطق جيم «جدة»، وخاصة بين كل من الشيخ عبد القدوس الأنصاري « وهو أديب ولغوي وروائي ومؤرخ وصاحب أول رواية سعودية وأنشأ مجلة المنهل» وبين علامة الجزيرة العربية حمد الجاسر وهو أول من أنشأ صحيفة في الرياض، وهي صحيفة اليمامة ثم الرياض، وكانت المناظرات التي جرت بينهما في هذا الخصوص من أهم المعارك الأدبية على صفحات الجرائد وكانت تسمى «معركة جيم جدة»، وخلاصة رأي الشيخين أن حمد الجاسر كان يرى إباحة الضم والكسر والفتح في جيم جدة، ويعلل ذلك بخفة الاستعمال وسهولة النطق: «فكل ما كان اللفظ سهلاً في النطق ولم يكن يترتب عليه تحوير أو تغيير في المعنى وخاصة في أسماء المواضع، فلا مانع من النطق به بهذه الصفة ما لم يكن هناك نص صريح معقول في تحديد النطق».. ويرد الأنصاري على استناد الجاسر إلى سهولة النطق فيقول: «إن الضم أسهل في الجيم خاصة، فحركة الضمة فيها تخرج من الشفتين واللسان والحنك معاً إلى خارج الفم في الجيم ذاتها.. أما كسرة الجيم فتخرج من اللسان والحنك معاً، ولكن إلى داخل الفم حيث يبتلع المتلفظ بالجيم المكسورة شيئاً من نَفَسِه إلى داخل الحلق مما يزيد في صعوبة النطق وعسره نوعاً ما ». كما يرد على إجازته تغيير النطق في أسماء المواضع إذا لم يترتب عليه تحوير أو تغيير بأنه ليس من حقنا أن نتصرف من عندنا في حركات أسماء المواضع الموضوعة من قبل العرب قديماً، لئلا يختلط الحابل بالنابل وتتغير أسماء المدن والمواضع.. ويقول إنها « قاعدة لا يعول عليها علمياً بل إن المعوّل على ضدها ويجب العدول دائماً من الأخف في الاستعمال على ألسنة الناس اليوم إلى الصحيح ليسلم كيان اللغة من الأوشاب والأوصاب التي تدفعها إليها اللهجات العامية المختلفة دفعاً عارماً مستديماً ».. ثم يورد الأنصاري سلسلة من النصوص لعدد من اللغويين والأدباء والجغرافيين والرحّالة القدامى والمحدثين تدلُّ دلالة واضحة على ضبط جيم جيدة بالضم، وأيّاً كانت الطريقة التي تنطق بها جيم جدة، فقد أصبحت هذه المدينة سهلة في النطق، يتلذذ بترديد اسمها العاشقون، وكانت ذات يوم مدار أغنيات البنات في بلدي «باي باي خلاني براي، المسافر جدة خلاني براي.. وهلم جرا.. وقد أخذت من الأصالة قدرًا كبيرًا ومن المعاصرة نصيباً تلحق به ركب المدنية المعاصرة، ففي مقهى بشارع التحلية أملى الدكتور عبد الله مناع كتابه «بعض الأيام، بعض الليالي» على الصحفي على باطرفي، وفي «مقهى أندلسية» أخرج الإعلامي أحمد الشقيري أروع برامجه الهادفة وجعل من المقهى مكتبة رائعة ومكاناً للشباب يحققون فيه بعض طموحاتهم، وفي جدة دوّن العديد من الرحالة مذكراتهم وسجلوا في دفاتر الزمن أشواقهم وذكرياتهم، وفي جدة منتديات بأسماء الأسبوع، السبتية والأحدية والإثنينية والثلوثية، وها هي الأربعائية تنداح «كما يقول الأرتاوي» فكرًا وعلماً ووعياً في فضاء المطار القديم. وتعالوا معاً نقرأ معاً خاطرة الريحاني عن أحد أندية جدة قبل حوالى مائة عام : «في جدة مظهر من مظاهر الورع والتقوى ما شاهدت مثله في أي مكان آخر. هو نادٍ قليل الأعضاء ولكنهم جميعا حكماء، هو نادٍ فريد في بابه، لا رئيس له، ولا بيت ولا قانون. يجتمع أعضاؤه كل يوم عند الغروب على كثيب رمل قرب البحر خارج البلد، فيصلّون المغرب أولاً ثم يبادرون إلى «أكرة» من حديد يتبارون في رميها، ثم يجلسون في حلقة على الرمل فيتحدثون في الأدب والشعر والتاريخ. إنه يدعى نادي الصلاة، ولكنه في غاياته الثلاثة: رياضة الجسم، ورياضة العقل بعد الرياضة الروحية ليجمع بين أطراف الحكمة كلها، ولا أظن أن في العالم أجمع، شرقاً وغرباً، نادياً آخرَ مثله، وكان أجملها من ساعة نذكر الله فيها ثم نذكر نعمائه في الأجساد التي نسعى دائماً في حفظها صحيحة سليمة، ونذكر نعمائه في العقول فلا نهملها، فالرياضة والتمرين يكسبان الجسد والروح صحة ونشاطاً. إن نادي الصلاة في جد هو مقاصد الحياة كلها ويصح أن نطلق عليه نادي الحكمة العميقة المثلثة الزوايا، فإن الحكمة كل الحكمة في المساواة والتوازن بين الروح والعقل والجسد. أما أعضاء النادي فهم كما علمت من صفوة الناس كلهم عقلاء وحكماء وقد شرفوني يوم كنت بينهم أن أدخلوني في الحلقة المباركة، غلبني شيخهم الأكبر في رمي «الأكرة» وغلبني شيخهم الأصغر في المساجلات الأدبية والشعرية. أما في الصلاة فقد كنت أشاركهم دون أن أقف في الصف وراء الإمام. فمن هو الشيخ الأكبر الذي يرمي الأكرة كشاب، ومن هو الشيخ الأصغر، أما إذا أدخلت القارئ إلى النادي الفريد في قصده ومقره، فينبغي أن أعرّف بالأعضاء، وعددهم هو العدد السري القدسي، سبعة فقط. هذا الحاج زينل على رضا، شيخهم الأكبر يحترمه التجار في الحجاز وفي بومباي، ويعرفه ويحبه كل الأولاد في جدة، ذلك لأنه في عيد الفطر يخصهم بقسم مما كسب في الاتجار، فيجلس في إيوان داره وإلى جانبه أكياس من النقود ريالات وروبيات، يوزعها على الفقراء وخصوصاً على الأولاد الذين يمرون أمامه صفوفاً في ذلك اليوم، وكثيرًا ما يمر الولد الواحد ثلاث مرات فيأخذ قسمته ثلاثة أضعاف والحاج زينل عالم بذلك ضاحك محبور، وهذا أخوه عبد الله علي رضا، محافظ جدة وحكيم الحلقة الأكبر وصاحب الفكرة في حفظ التوازن بين العقل والروح والجسد، وهذا الشيخ محمد نصيف أديب جدة الأكبر وأمين الكتب فيها فإن عنده مكتبة حافلة بالقديم والحديث لا يقتنيها للعرض فقط بل ينتفع بها وينفع يجيء الأدباء إلى داره وكأنها دار الكتب العمومية فيعيرهم ما يشاءون منها ويشترون ما يعرضون من مخطوط ومطبوع وهو دائرة معارف كاملة يجيب عن الأسئلة التي توجه إليه ويرشد إلى مصادر المعرفة في العلوم الأدبية والتاريخية والفقهية. وهذا الشيخ سليمان قابل رئيس البلدية وأخوه عبد القادر، وهذا الشيخ محمد الطويل أصغر الأعضاء سناً وآنقهم زيّاً وأقدرهم في عد الأموال، والطويل هو أمين خزينة الملك حسين وناظر الجمارك في القطر الحجازي «الصفحة 48، من كتاب ملوك العرب للأديب اللبناني أمين الريحاني، الطبعة الثامنة 1987م».