في حياتهما التي عاشاها بعمر قصير، عذابات لا حصر لها ومعاناة لا حصر لها مع المرض والقراءات المعرفية المكثفة والحساد والجاهلين بمقدراتهما الفذة. عاش الاثنان في زمان كان الاستعمار يرتاب في كل صاحب قدرات معرفية أو ذكاء فطري كالذي حباهما الله به، فكان التضييق على كل صاحب معرفة وقّادة مثلهما، ومن ذلك تضييق السلطات الاستعمارية على معاوية نور في حياته حتى أضحى جسداً فقط في أخريات أيامه. ومن عجب أن الاثنين يعتبران من أوائل السودانيين الذين اهتموا اهتماماً متعاظماً بالقراءات العميقة في الفلسفة والأدب العربي في جميع عصوره. فالتيجاني أثناء دراسته بالمعهد العلمي انكبّ على كتب التراث والأدب انكباباً شرهاً جعل حياته تسير نحو التأمل في الكون من خلال هذه القراءات فكتب وهو في السادسة عشرة قصائد يحسب قارئها أنها لشيوخ في السبعين من أعمارهم. أما معاوية نور فقد كان حين بلوغه العشرين واحداً من كتاب القصة القصيرة. وحين بلغ الخامسة والعشرين أصبح من كتاب الدراسات النقدية بالصحف والمجلات ومن ذلك مقالاته المنشورة بالرسالة القاهرية ومجلة الفجر كذلك. في جانب التيجاني يوسف بشير تبرز أولى كتاباته وهو ابن ستة عشر عاماً وهي القصائد التي جلبت إليه رياح الحقد والحسد من أقرانه، بل أساتذته بالمعهد. فكان أن زاد عليها بقصائد فلسفية غاية في البلاغة ورصين اللغة وهي بجزالة لفظها كانت واحدة من ضمن القصائد المستوحاة من التأمل في الكون. قطرات من الندى رقراقة يصفق البشر دونها والطلاقة للاثنين قصتان مع جهل المجتمع بأهمية العلم والاستزادة منه زائداً الاهتمام بالموهوبين. فالتيجاني لم يجد اهتماماً من أساتذته بالمعهد بل على العكس ضُيِّق عليه حتى فُصل منه بسبب لا يرتقي للفصل.. زائداً عدم اهتمام كبار السن من عارفي قدراته به. وهي أسباب جعلته يعمل بوظائف عديدة حتى يتمكن من تلبية حاجته الوحيدة في هذا العالم وهي القراءة ولا شيء غيرها. فكان معظم ماله الذي يتحصل عليه من الوظائف التي عمل بها يشتري به كتباً لإرواء ظمأ المعرفة لديه. لمعاوية نور قصص مع عدم اهتمام المتعلمين به فهو وفي تلك الفترة كان أحد دارسي الأدب الغربي بل مترجماً له، وهو ما لم يتوفر لأحد من أقرانه في تلك الفترة. في عالم الجهل وعدم القدرة من المجتمع على اللحاق بهما قبل أن يستفحل ما بهما من مرض كان بالإمكان معالجته صورًا قاتمة ودليلاً قاطعًا على الكم المتكاثر من الجهل والأمية بل عدم اهتمام الناس بالعلاج.. فالتيجاني عانى من داء الصدر حتى لاقى ربه وهو في سن مبكرة. أما معاوية نور فقد حسبه الناس مجنوناً بصمته الذي كان يستمر ليوم أو اثنين. فكان الجهل سبباً في الوفاة المبكرة كذلك له.. إذ سلم النابغة لأحد الشيوخ ليعالجه فكان العلاج هو الضرب (بسوط العنج) حتى يخرج الشيطان من جسده.. فتأمل جهل أهل السودان في ذلك الزمان وطريقة العلاج.. الاثنان من ضمن شخصيات لم يلتفت الناس لمعاناتهما مع المرض والحسد. الاثنان كذلك ينتميان لأسرتين ظلتا منذ بدايات القرن الماضي وحتى الآن على سدة العلم والمعرفة والتعليم والدبلوماسية وتقديم الخير للناس علماً وأدباً وأخلاقاً، فقد حبا الله هاتين الأسرتين بصفات أهل السودان العريق العتيق الجميل وليس السودان الذي يريده الحقاد والحساد.