إن هذه الأشكال التنظيمية الثلاثة سواء كانت بقصد أو بغير قصد فهي تبعد الدولة عن العمق الإسلامي الذي توفره لها جماعة حاكمة نشأت جهادية تدعو إلى الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية في كل صغيرة وكبيرة.. وإذا كان السلفيون في مصر قد اختاروا اسماً يجمعون حوله الآخرين.. وإذا كان الإخوان المسلمون قد اختاروا اسماً آخر يديرون به برامجهم السياسية ويخاطبون به المواطنين المصريين.. فقد أخطأ السلفيون.. وأخطأ الإخوان المسلمون.. وهذه شنشنة ترابية وهي لا تمثل إلا ضرباً من ضروب التعجل في الوصول إلى الحكم.. وهو تعجل غير مطلوب وغير مرغوب فيه لا ديناً ولا دنيا. مما لا شك فيه أن العلمانية في مصر أقوى شكيمة من نظيرتها في السودان.. وذلك بسبب الأنظمة العلمانية التي رزحت تحتها مصر من لدن خروج الإنجليز.. بل منذ سقوط دولة الخلافة في تركيا.. وظل طابع العمالة هو الغالب على معظم الذين حكموا مصر منذ ذلك الوقت إلى حين سقوط نظام حسني مبارك.. لذلك فخير لمحمد مرسي والإخوان المسلمين في مصر أن يحسبوا خطواتهم جيداً ولا يغرنهم شهر العسل الإسلامي الذي يعيشون فيه الآن.. فقد عشناه قبلهم في السودان ولكن بعد انقضاء شهر العسل تأتي مطالب الحكم والحاجة إلى مواجهتها يومًا بيوم وساعة بساعة. إن مغريات إدارة الحكم من خلال واجهة عريضة لا تزيد على كونها أنشوطة شيطانية وحيلة ينصبها ويدلس بها على الحكام فيفتح لهم بابًا للذرائعية لا يكاد ينسد.. ويوهمهم بأن كل ما يفعلونه إنما يفعلونه من أجل المحافظة على الأصل الشرعي الذي يتهدده أعداؤه من كل جانب.. حتى إن الحاكم لو أهمل في بعض واجباته التعبدية أو تهاون في بعض علاقته مع الحكام الآخرين.. بل حتى لو أسرف في الصرف على نفسه.. ثم سرق.. ثم زنا فإن الشيطان يدلس عليه من باب المحافظة على الأصل الإسلامي الجامع .. الذي لو ضاع لضاع الأمر كله.. إن الحركة الإسلامية بصفة عامة وفي السودان بصفة خاصة في موقف دقيق.. والناظرون إليها اليوم ليسوا هم فقط أهل الأرض.. بل إن أهل السماء اليوم أكثر شوقاً إلى رؤية مآلات ما يجري على الأرض.. فالعرس الإسلامي يوشك على الانطلاق.. وتباشيره قد بدأت وأطلت.. فمن هو العريس القادم؟ إن الحركات الإسلامية إذا أحسنت التصرف وأحسنت الأداء فالعرس قادم وقريب لا محالة.. ولكن إذا استمرت وأصرت على منهج الدغمسة الترابية فقد تولت وأصبحت رهن الاستبدال.. ورهن الناموس الرباني «ثم لا يكونوا أمثالكم» ومن أخطر ما يتناوله الأخرون هذه الأيام قضية إعادة توحيد الحركة الإسلامية.. ويتحدثون عن المؤتمر الوطني والشعبي.. وهذان ليسا هما الحركة الإسلامية.. وبعض الإخوة يقولون إن الترابي مفكر وداعية ولا يختلفون معه إلا سياسيًا.. وأنا أقول والله إن الغالبية العظمى من أعضاء الحركة الإسلامية بل ومن الإسلاميين على اختلاف تنظيماتهم ومشاربهم لا يختلفون مع الترابي سياسياً بل يختلفون معه عقديًا في أمور تتعلق بجوهر العقيدة وجوهر الدين. ولذلك.. وهذا السبب وحده دون إضافة أسباب أخرى فإن توحيد الحركة الإسلامية ينبغي أن يتجاوز الرجال ولا يرتبط توحيدها ولا وحدتها بالأسماء بل بالمسميات.. إن الترابي ربما كان مفكرًا وداعية.. ولكنه قطعاً ليس مفكراً إسلامياً.. ولا داعية إلى الخير. بل هو داعية إلى الشر ونحن في غنى عن تعديد مآثره وإنجازاته وإخفاقاته في دعوته هذه فهي لا تكاد تخفى على أحد. إن كانت الحاجة ماسة إلى تقوية الحركة الإسلامية وتوحيدها فالحاجة أمس إلى توحيد أهل القبلة تحت أصل شرعي جامع.. وهناك عشرات من التنظيمات الإسلامية التي تساوي عضويتها أضعاف عضوية المؤتمر الشعبي. وأنا أعلم يقيناً أن الغالبية العظمى من عضوية المؤتمر الشعبي لا يوافقون الترابي على هرطقاته في الغيبيات ولا في الأحكام ولا في السياسة.. وإن كثيرين منهم رد الله غربتهم إنما كانوا أسرى الوفاء وأيام الصفاء وبعضهم أسرى الانبهار بشخصية الشاب القادم من السوربون إن صحت العبارة بدرجة علمية رفيعة إن صحت الحكاية وهو يمثل ما تحتاج إليه الدعوة في تلك الأيام.. وهو أن تثبت للعالم أنها ليست دعوة شيوخ ومتصوفة ومعمَّمين .. بل هي على استعداد لغزو الغرب في عقر داره بأسلحته المعاصرة اللغة والأكاديميات وحتى المظهر الخارجي البدلة وربطة العنق.. وهلم جراً.. إن التوحيد الذي ننتظره ونسعى إليه ونفرح به هو التوحيد الذي يقدم على أصل ولا يقدم على شخص.. إن نشوق الترابي ونشوقه إلى الوصول إلى الحكم بدرجة رئيس جمهورية ليس قادحاً في تدينه كما يقدح فيه قوله في حديث الذبابة أو إنكاره الحور العين.. إن طاعة ولي الأمر عبادة.. والخروج عليه معصية لا شك في ذلك.. ولكن التطاول على ما استقر من أصول الدين في العقائد والأحكام والمعاملات يتجاوز المعصية بكثير.. ومن أهم ما نضحت به الساحة الإعلامية حول قضايا الحركة الإسلامية ما جاء على لسان الدكتور الدعاك على صفحات «الإنتباهة».. حيث قال: إن التحدي هو تحرير الحركة من الدستور ومن الحزب وهو يعني بالدستور النظام الأساسي الذي يقيد البقاء في المنصب بدورتين أو أكثر.. وهو خلاف الأصل الشرعي الذي يبني الاستحقاق وإدامته على الخصائص. أما الحزب فهو المؤتمر الوطني الذي بجب أن يحل وتشطب كلمة حزب من قاموس السياسية السودانية كلها فهي كلمة مقتها الحق عز وجل في محكم تنزيله ونسب إليها أقبح الأشياء.. والذي قاله الدعاك يعبر عن وجدان الإسلاميين جميعاً الذين لم يتلبسوا الحكم ولا وظائفه أو ممن عصمهم الله سبحانه وتعالى من الانبطاح والانكسار والدغمسة. يقول الدعاك: إن الوطني أنشأته الحركة فأصبح أعلى منها وهو الذي يحدد خياراتها ويحاسبها.. ويضيف.. التيار الذي يرفض اتجاه تذويب الحركة ليس ضعيفاً وليس تياراً قابلاً للتهميش. ويزيد د. الدعاك الأمر وضوحاً عندما يقول: المؤسف أن الحركة تواجه أزمة في القيادة. وهناك التفاف حول شخصيات بعينها. ويستطرد شارحاً هذا الأمر وناسباً إياه إلى سياجات القداسة التي ينصبها بعض الأشخاص حول أنفسهم وإلى تركيز القيادة في أشخاص بعينهم لفترات طويلة.. وكله كلام صائب وحقيقي ونعيشه بكل مراراته وعذاباته ونتحمل نتائجه كاملة. ولكن الأخ الدعاك وغيره من الإسلاميين الذين يتوقون إلى الإصلاح وإلى إبدال القادم بالقديم لا ينتبهون إلى ما يرددونه هم أنفسهم من أن القيادة محتكرة ومقدسة ومحاطة بسياج القداسة والسلطة. لذلك فالقادم الجديد ليس سوى أويس القرني.. وأويس القرني رجل صالح من عامة أهل الإسلام.. لا يعرفه أحد.. ولا ينتبه إليه أحد.. وعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي وقد أخبر الصحابة بأنهم إذا رأوه فعليهم أن يطلبوا منه الاستغفار لهم.. وأنا أقول إن أويس القرني موجود في الحركة الإسلامية.. يوافقني على ذلك الدعاك وغيره.. وموجود بكثرة وأظنه لو دعا لأحد هؤلاء القادة لاستُجيب له. ولكن لم يكن هناك سبيل لأويس القرني ليجلس على كرسي الخلافة الراشدة.. ولا الحكم ولا السياسة بل نشأ في جو بر والدته ورعى شياهه القليلة ولزوم الطاعة.. وهكذا الحال مع أويس القرني داخل الحركة الإسلامية. إن المؤتمر الثاني لن يأتي بمعجزة ولا خارقة.. ولكن يكفي أن تعلو أصوات عمر بن عبد العزيز واويس القرني وأن يطرح صوت ثقة بالقيادة والدولة.. ولا يشترط أن ينفذ.. بل يكفي أن يكون صفعة عله ينبّه.