شهدت الأيام القليلة الماضية انعقاد المؤتمر العام للحركة الإسلامية بحضور أربعة آلاف عضو إلا قليلاً، وأعلن أن عدد الغائبين الذين لم يتمكنوا من الحضور لأسباب وظروف خاصة حوالى خمسين أو أكثر قليلاً، وهذا يعني أن الحضور كان كثيفاً مع حضور قادة ووفود من الحركات الإسلامية على مستوى العالم العربي والإسلامي، وإذا منح أي عضو من أعضاء المؤتمر والضيوف فرصة للحديث لمدة دقيقة واحدة فقط فإن هذا يتطلب أن تمتد فترات الحديث لمدة ست وستين ساعة متصلة دون أن تتوقف لمدة دقيقة واحدة وهذا من المستحيلات كالغول والعنقاء والخل الوفي وإن جل المؤتمرين كانوا يدركون سلفاً بأنهم يأتون ويرجعون دون أن تتاح لأي واحد منهم فرصة أن يقول حرفاً واحداً داخل قاعة المؤتمر رغم أن أي عضو قد صعد من قاعدته لأنه إنسان ذو قيمة. ورجع حوالى ثمانية وتسعين في المائة من المجموع الكلي للمؤتمرين دون أن تتاح لأي واحد منهم داخل القاعة فرصة التداول حول ما هو مطروح ولكن أتيحت لهم فرص المشاركة في التصويت، وقد استحوذت طريقة انتخاب الأمين العام والمسألة المتعلقة باللجنة التنسيقية العليا بين الحكومة والحزب والحركة جل الاهتمام. وقد كلّف انعقاد هذا المؤتمر أموالاً طائلة أثناء فترة انعقاده وما قبلها في مرحلة التحضير له وأعلن القائمون على المؤتمر أنهم اعتمدوا على موارد الحركة الذاتية وذكروا أن لها موارد ومصادر دخل عديدة بامتلاكها لشركات كثيرة وغيرها من مصادر الدعم ويحق للأعضاء المنتمين للحركة الإسلامية أن يتساءلوا عن كيفية تدوير هذه الأموال وجمعها ورصدها وصرفها، وهل الحركة كتنظيم شخصية اعتبارية ولها حسابات مودعة باسمها أم أن هذا أمر يخص قلة ولا يخص الآخرين. ودار ولا يزال يدور حديث وتساؤل متصل عن العلاقة بين حزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية والحكومة وهو ما اصطلح على تسميته الحاءات الثلاث«حركة، حزب حكومة» وهناك سؤال مطروح فحواه هل وجود الحركة والحزب فيه ثنائية وازدواجية وتداخل في الاختصاصات وتقاطع في الأجندة أم أن أدوارهما فيها تكامل وأن الحزب يمثل السور الخارجي وأن الحركة تمثل البيت الداخلي، والمؤكد أن كل عضو بالحركة الإسلامية هو عضو بالمؤتمر الوطني تقريباً ولكن ليس كل منتمٍ للحزب هو عضو بالحركة الإسلامية أي أن بعضهم يحمل بطاقتين إحداهما هي بطاقة الحركة والأخرى هي بطاقة الحزب والبعض يحمل بطاقة واحدة فقط هي بطاقة الحزب، وهذا أمر قديم منذ ستينيات القرن الماضي إذ كانت جبهة الميثاق الإسلامي التي كوِّنت بعد ثورة أكتوبر في عام 1964م تضم الإخوان المسلمين وأنصار السنة وعدداً من شيوخ الطرق الصوفية ومريديهم، وبجانب الجبهة كان للإخوان المسلمين تنظيمهم وكيانهم الخاص وعند تكوين الجبهة الإسلامية القومية كان تنظيم الإخوان قائماً، وقد انخرطوا جميعاً من القاعدة للقمة في نظام الإنقاذ منذ يومه الأول وعند قيام المؤتمر الوطني الذي وصفوه قبل تسجيله بأنه وعاء شامل، ثم تم تسجيله بعد ذلك كحزب يضم ذوي الولاء القديم أو المستقطبين الجدد في شتى المراحل فإن هناك تمييزاً بين الأعضاء وكانت وما فتئت توجد تصنيفات وفق قوائم ثلاث: الأولى هي للإسلاميين المنضوين في التنظيم والذين كان يحق لهم الانخراط في الأمن الشعبي والقيام بمهام كثيرة تنظيمية وتعبوية وغيرها، والقائمة الثانية تضم المصنفين بأنهم وطنيون وهذه درجتهم أقل من الإسلاميين ويقسّمون أيضاً لدرجات وفقاً لولائهم وإخلاصهم وهم يعتبرون مندرجين في الإطار العام للنظام والقائمة الثالثة تضم المعارضين. وإن مهام الدولة وتثبيت أركان السلطة قد شغلت الحزب والحركة عن الجوانب الدعوية والتربوية، ويقوم بهذه المهمة ومن تلقاء أنفسهم أئمة المساجد والعلماء والفقهاء مع تهميشهم تنظيمياً. والآن يوجد حزب حاكم هو حزب المؤتمر الوطني ويوجد تنظيم حاكم سمه ما شئت التنظيم أو الحركة الإسلامية والعلاقة بينهما تكاملية إذ يوجد حزب له هياكله القيادية الاتحادية والولائية وما دونهما على مستوى المحليات«المحافظات» والوحدات الإدارية وفاعلية الحزب واجتماعات المجالس القيادية وما يصحبها من متابعات إعلامية تكون في المستويات العليا، أما على مستوى القواعد فإن الفاعلية تكون في مواسم الانتخابات وعند الحاجة للمواكب والاستقبالات وفي غير أوقات النفير فإن هياكل الحزب تغدو كأعجاز نخل خاوية وإذا أردت أن تجري بحثاً ميدانياً وذهبت لأي قرية من قرى السودان النائية أو الدانية صغيرة أو كبيرة أو إذا ذهبت لأي حي في مدينة عاصمية أو ولائية وسألت سكان القرية أو الحي عن قيادة حزبهم فتجد أن الجميع لا يولون هذه المسألة ذرة من اهتمامهم ولا يعنيهم في شيء، إذا وجدت لجنة أو لم توجد وارتباطهم بها قد يكون في موسم الانتخابات أو عند زيارة مسؤول ولا أثر للحزب في حياة المواطنين اليومية والعضوية المليونية المزعومة ارتباطها بالحزب أو هي من خيوط العنكبوت. وعلى مستوى رئاسة المحليات«المحافظات» أو رئاسة الولايات إذا ذهبت لمكاتب الحزب في الأيام العادية فإنك تجدها شبه مهجورة وليس للمواطنين حاجة يقضونها فيها ويكتفون بالذهاب لمكاتب الدولة عند الضرورة، ولكن هناك جسر رابط بين الحزب وبين الجهاز التنفيذي ويمثله المنتمون للتنظيم أو الحركة الإسلامية سمها ما شئت إذ أن هؤلاء ينتمون للحزب وهم جزء أصيل منه ولكنهم وعلى المستويات كافة يعتبرون أنفسهم أصحاب الحل والعقد وأهل الجلد والرأس ويقومون بمهام أمنية وتنظيمية وبينهم منلوج داخلي ولا يحسون بأي ثنائية وازدواجية مع الحزب لأنهم منتمون إليه وهم ركائزه وسنده وعضده، وعلى سبيل المثال فقد كان لهم القدح المعلى في الانتخابات التي أجريت في العام 2010م وفي كل دائرة من دوائر السودان نجد هؤلاء المنتمين للتنظيم «الحركة الإسلامية» هم رعاة ومنظمو العملية الانتخابية ولا يهم إذا عمل معهم المرشح أو ارتاح في منزله، لذلك فقد حصل بعض المستقطبين الجدد على أصوات كثيرة وقد تذبح الذبائح أمام منازلهم مع التهليل والتكبير أو الغناء والطرب مع موسيقا الكيتة وزغاريد النساء، وفي حقيقة الأمر «الخيل تجقلب والشكر لحماد» وأن التنظيم يمثل الدينمو المحرك ومن هنا تتكامل الأدوار بين الحكومة والحركة والحزب، ولذلك سعى أولو الأمر للحيلولة دون أي محاولة في المؤتمر لإقامة فواصل بين الحركة الإسلامية وبين الحزب وقد نجحوا في ما خططوا له بقيام قيادة عليا للتنسيق بين الحكومة والحزب والحركة وفي تقديرهم أن الحركة ليست بحاجة لمرشد أو زعيم موجه وهي بحاجة لأمين عام يقوم بدور تنفيذي تنظيمي يتكامل ويتسق مع مكونات السلطة الأخرى ولذلك فإن فوز الأستاذ الزبير أحمد الحسن يمثل بالنسبة لهم انتصاراً وضماناً لهذا الانسجام والتماهي المرتجي. ولعل المؤتمر العام للحركة الإسلامية الذي عقد في عام 2004 لاختيار الأمين العام ما زالت نتائجه وترسباته تلقي ظلالها على هذا المؤتمر، يضاف لذلك توجسات ومحاذير بقية المجموعة وعدم استطلفاهم لمنافسهم. وبعيداً عن شخصنة القضايا فإن الدكتور حسن الترابي عرّاب الإنقاذ السابق كان مسانداً للدكتور غازي صلاح الدين عندما تم ترشيحه في عام 1996م لموقع الأمين العام للمؤتمر الوطني «قبل تسجيله كحزب» وعندما انتهت فترة تكليفه الانتقالية وحل محله دكتور الترابي توطئه لقيادة المؤتمر الوطني كحزب مسجل يبدو أن الدكتور غازي لم يكن راضياً ولم تختره الجماعة في الدائرة الضيِّقة وزيراً للخارجية على أقل تقدير، عوضاً عن موقعه السابق وعيِّن وزيراً للثقافة والإعلام دون رضاه وعندما سأله أحد الصحافين قائلاً له «هل ستستقيل عن موقعك الوزاري الذي تباطأت في قبوله ؟!» أجابه ساخراً «إلى من أقدم استقالتي ؟!» أي أن من يفترض أن يقدم لهم استقالته هم أنداده وهو ليس أقل منهم. وظل البعض يرددون أنه كان صاحب القدح المعلى في عملية إقصاء وإبعاد شيخهم وشيخه الترابي الذي كان يقدِّره ويثق فيه ويعتبره من خاصته المقربين، وسعوا في المؤتمر الأخير أن يشرب هو من ذات الكأس المر الذي شرب منه شيخه من قبل وأسقط في أيديهم لأن غازي الوقاد الذكاء رفض ترشيح نفسه لأسباب موضوعية أو لقراءته للملعب قراءة صحيحة وفوت عليهم فرحة إعلان سقوط مدوٍ كانوا يتوقعونه له في مجلس الشورى..... ومؤخراً أعلن الأستاذ أحمد إبراهيم الطاهر نيته في التخلي عن رئاسة المجلس الوطني في يناير المقبل كحد أقصى، وقد كان جل رؤساء البرلمانات السابقة من القانونيين ولكن تولى رئاسة البرلمان لدورتين في الديمقراطية الثانية طبيب هو الدكتور مبارك الفاضل شداد، وتولى رئاسة البرلمان في عهد مايو الرائد أبوالقاسم هاشم وكان منتمياً للمؤسسة العسكرية، وتولى رئاسة البرلمان أيضا مربٍ ومعلم هو الأستاذ عز الدين السيد، وتبعاً لذلك يمكن أن يتولى الرئاسة الآن رئيس غير قانوني إذا اقتضى الأمر اختيار رئيس جديد وإذا دخل الدكتور غازي في منافسة جديدة فالمحتمل أن يصر الجماعة على مولانا لمواصلة رئاسته المجلس الوطني حتى انتهاء دورته وإجراء الانتخابات القادمة. وإن الوطن يمرُّ بتحديات وتحرشات خارجية وتحديات عويصة اقتصادية وأمنية ولذلك ينبغي ترك المعارك الصغيرة والانصراف للمهام الكبيرة، ولنا وقفة تفصيلية أخرى مع الدكتور غازي وهو مفكِّر مرموق موسوعي الثقافة ويجيد التعبير عن أفكاره بالقلم والكلم ويتمتع بسيرة طيبة وسيكبر في نظر الجميع أكثر لو طوى هذه الصفحة ورضي بطوعه ومحض اختياره أن يكون نائباً للأمين العام للحركة الإسلامية ويضطلع بالجوانب الفكرية والدعوية والتربوية والروحية التي ضعفت لأنها أهملت للانشغال عنها بالجوانب الأخرى وقطعاً أنه سيكون ساعداً قوياً للشيخ الحافظ الزبير أحمد الحسن الأمين العام للحركة الإسلامية وإن التعامل مع شيخ الزبير سيكون سهلاً وبلا تعقيدات لأنه ليس من أصحاب الأجندات الخاصة والتطلعات الشخصية ذات السقف العالي وسيكون الزبير وغازي ثنائياً متفاهماً ولو أضيف إليهما الدكتور أمين حسن عمر لأصبحوا ثلاثياً منسجماً.