لم تكن هي المرة الاولى التي لم تمكِّن فيها وحدات حكومية المراجع العام من مراجعة حساباتها رغم معلومية تاريخ اغلاق الحسابات المالية لتلك الوحدات، كما هو معلوم تاريخ مرور مفتشي ومراجعي ديوان المراجعة العامة على تلك الوحدات، ولكن يبدو ان هناك امرًا مقصودًا أو ممانعة متعمَّدة، وربما اصبح المراجع العام نفسه يستحي من الإقرار بفشله في الوصول لحسابات تلك الوحدات التي استعصت عليه، وكان المراجع في السابق اكثر دقة ويقوم بتسمية هذه الوحدات بمسماها الحقيقي ويجاهر بالشكوى لأعلى جهة بالبلاد تستطيع ان ترغم تلك الوحدات «المجلس الوطني» والتي يُطلق عليها البعض من باب الدقة «دولة داخل دولة»، وكان وكان يعلنها مدوية انها وحدات ترفض تقديم حساباتها، دون أي اضطرار لتسميتها بانها لم تغلق او لم تقدم حساباتها من باب التلطيف لمصطلح الرفض للمحاسبة. ولعل للبرلمان جولات وجولات في التصدي لمثل هذا الرفض وكان بطل هذه الحملات دون منازع الصحافة والتي قامت دون خوف بالكشف عن هذه الوحدات ومن ثم قويت ارادة البرلمان واللجان التي كونها لملاحقة تلك الوحدات، وكانت اولى هذه اللجان في عهد البرلمان السابق «البرلمان المعين» والتي رأسها الشيخ عباس الخضر والذي نجح ايما نجاح في الحرب المعلنة على هذه الوحدات القوية، ثم استلم الراية من بعده رئيس لجنة العمل الحالي د. الفاتح عزالدين ونجح ايضًا في المهمة حتى آخر تقرير سابق للمراجع العام تم تقديمه، وبرز التقدم من خلال تقرير المراجع العام الحالي الطاهر عبد القيوم خلال تقريره الاخير للعام المالي المنتهي 2011، والذي تم تقديمه بالاربعاء الماضي اذ شملت المراجعة جهتين لم تكن المراجعة تشملهما في السابق وهما شركتا سوداتل و كنانة، الا ان تقريره لم يخرج من تسمية جهات ترفض او تماطل في تقديم حساباتها للمراجعة وحددها ب 25 وحدة حكومية حتى الآن على الرغم من ان العام المالي 2012 في خواتيمه، وهذا ما يفتح العديد من التساؤلات حول صلاحيات المراجع العام وفق قانونه وصلاحيات البرلمان كجهة رقابية عُليا، وربما تظل هذه النقطة السوداء في تقرير المراجع العام كامل البياض منقصة له، مايشي بوجود جهات اقوى من المراجع العام في الدولة، بجانب جهات مجنبة للمال العام رغم انف القانون و المالية والبرلمان. حسنًا... لا بد من الرجوع قليلاً لسنوات قليلة سابقة لنتعرف على مدى قوة الجهات الرافضة لتسليم حساباتها، ونتعرف ايضًا على قوة الديوان التي نجحت في الكشف عن الجهات رغم الضغوطات الكبيرة التي تعرض لها الديوان، ففي عام 2006 بلغ حجم الوحدات الرافضة لتقديم حساباتها 144 وحدة، وبلغ عددها في العام 2009 «48» جهة، وكان المراجع العام السابق أبوبكر مارن، والذي اشاد به منسوبو المعارضة في البرلمان السابق كشف عن اسماء جهات حكومية على رأسها وحدات بوزراة الداخلية، وبالجهاز القضائي بولاية نهر النيل، ونجد ان مارن تعرض حينها لحملة من جهات من بينها الداخلية قامت بنشر اعلان مدفوع القيمة نفت حديث مارن، الا ان الاخير رمى بالكرة في ملعب الداخلية، وقال امام البرلمان «لم أفهم شيئًا من بيان وزارة الداخلية» ووصفه بغير الواضح، وزاد بقوله إن الديوان على استعداد تام لمراجعة تلك الجهات الآن. ويبدو ان الحرب غير المعلنة بين الديوان وتلك الوحدات المستعصية تأخذ اشكالاً وأبعادًا كثيرة للتشكيك في المراجع العام، والذي كان حسب وجهة نظرها يحاول ان يشوه سمعتها فحاولت بعض هذه الوحدات «الأشباح» ان ترد الصاع للمراجع حينها ابوبكر مارن، فسرَّبت لبعض وسائل الاعلام وثائق تتحدث عن تجاوزات بداخل الديوان، ما احدث هزة كبيرة داخله، الامر الذي جعل المراجع العام يجهر بالكشف عن وجود جهات تعمل على اعاقة عملهم وتطعن في نزاهته، وبدوره لم يصمت مارن عند هذه النقطة وذهب الى ابعد من ذلك وقال حينها على الملأ ان الديوان لا يخاف من أي جهة، وقطع حينها بأنه لن يتراجع عن مراجعة أي جهة حتى على مستوى رئاسة الجمهورية، ودعا لتكوين لجنة لمراجعة أداء الديوان، وقد دافع البرلمان عن منسوبي الديوان ووصف الحديث عن تجاوزات في الديوان بالمؤامرة الغرض منها تشويه صورة المراجع العام والتأثير على عمله. وما سبق جزء يسير من حرب غير معلنة بين جهات حكومية تفترض انها اعلى من القانون رغم تأكيدات رئيس الجمهورية ونائبه الاول انه لا جهة اعلى من القانون او اعلى من عمل المراجع العام، ولكن تستمر هذه الجهات «الأشباح»، في السير في طريقها هذا، ويبقى السؤال هل الحكومة جادة في محاربة الفساد واذياله من عدمه، و تريد ان تصل بحربها هذه الى نهاياتها، حتى ولو ادى الامر للتضحية ببنيها؟.