عندما دخلت مكاتب الصحيفة وجدت بانتظاري ثلاثة رجال بملابس ناصعة يشوبهم وقار ستيني وفي عيونهم اختلاجات ألم دفين عندما تحدثوا عن قضيتهم التي هي عادلة ومستحقة ولكنها معلقة في الهواء! زواري كانوا من الاتحاد العام لمتقاعدي البنوك الحكومية، يتحدثون عن قضيتهم التي امتدت لأكثر من اثنى عشر عاماً وما زالت في ردهات المحاكم لأن الدولة لم تلتزم بتنفيذ الاتفاقيات الجماعية المبرمة بينهم وبين الحكومة منذ العام «1974م». وإذا رجعنا لبنود هذه الاتفاقية كما حدثني رئيس الاتحاد الأستاذ محمد عبد الحي نمر بصحبة الأستاذ فاروق عفيفي وعبد القادر همت عضوي الاتحاد نجد فيها بندًا يقول إن الموظف الذي يتقاعد ويكمل «20» سنة خدمة يستحق مكافأة ترك الخدمة وهي مكونة من جزءين جزء يُصرف نقداً حسب تصديقات معينة، وجزء يُصرف كمزايا معاشية طوال حياة المتقاعد إلى أن يتوفاه الله ولا تورث هذه المزايا المعاشية، واستمر العمل به إلى سنة «2000م». ولكن حدثت البلبلة عندما جاءت الخصخصة التي فصلت آلاف الموظفين، وعليه وجّه محافظ بنك السودان الأسبق بعمل توجيه لمجلس الوزراء لإلغاء حقوق المتقاعدين المعاشية، عندها رفع الاتحاد قضية أمام محكمة الطعون الإدارية ضد هذا القرار وحكمت المحكمة بأن هذه حقوق مكتسبة وتُصرف للمتقاعدين، وتم تأييده في محكمة الاستئناف والمحكمة العليا والدستورية. وحسب رواية رئيس الاتحاد فإن محافظ بنك السودان الأسبق رفض تنفيذ الحكم بحجة أن هذه المبالغ كبيرة ستؤثر على البنوك وستنهار، علماً بأن المبلغ «4» مليارات جنيه! وصدرت فتاوى من وزير العدل محمد بشارة دوسة بأن هذه حقوق مكتسبة وأن البنوك الأخرى ملزمة ببدء سدادها ولكن لم ينفَّذ هذا القرار حتى الآن. ويواصل نمر قائلاً: هذه القضية مرت بكل مراحل التقاضي وكان آخرها قرار المحكمة الدستورية وهي النقطة الأخيرة بتاريخ «20/4/2003م» والتي قضت بإلغاء الأمر الصادر بوقف التنفيذ، كان ذلك القرار بعد دراسة مستفيضة من اللجنة المكوَّنة من سبعة قضاة برئاسة مولانا المرحوم جلال علي لطفي رئيس المحكمة الدستورية آنذاك. بعد صدور ذلك القرار الملزم لجأت الجهات المعنية إلى دفع الحقوق بمحاولات عدة وتكوين لجان لإجراء تسوية نهائية كتعويض للمتقاعدين بمبادرة من رئيس الإدارة القانونية لمجلس الوزراء خلصت لتوقيع محضر بين الاتحاد والمستشارين القانونيين بوزارة المالية ومجلس الوزراء وبنك السودان بدفع مرتب «90» شهراً لكن لم يتم التنفيذ علماً بأنها بمبادرة من مجلس الوزراء رغم الحكم الصادر عن المحكمة الدستورية، وتوالت التسويات وكانت جلها أقل من التسوية الأولى، والتي بالطبع لم يتم قبولها. ظروف المرض والحاجة دفعت بعض المعاشيين إلى القبول بتسوية مجحفة وهي دفع مرتب «40» شهراً على الرغم من أن المفاوضات وصلت لتسوية ب «70» شهرًا فقط، وافق عليها الاتحاد ولكنهم أبرموا هذه التسوية مع البعض بينما رفض البقية، حيث كان العدد الكلي أكثر من «2000» معاشي الآن هم «700» فقط، جزء أبرم الاتفاق وجزء حصل على أحكام فردية بصرف مستحقاته، وأكثر من «300» ماتوا خلال هذه الفترة، وسقطت حقوقهم وفي العام الحالي فقط مات أكثر من عشرة منهم!. هذه القضية جعلت رجالاً تخطوا الستين يلهثون خلف حق مكتسب تنازلوا عنه بتسويات عادلة ولكن وُضعت أمامهم خيارات جعلتهم لا يعرفون طريقاً آخر غير المحاكم، وكل عام يسقط منهم جماعة ويسقط معهم حقهم ولهاثهم وقضيتهم، فهل «4» مليارات مبلغ يهزم اقتصاد دولة؟ سؤال نرجو الإجابة عنه.