تبكيك أتبرة وتبكيك رفاعة وريرة تبكي عليك قبايلاً إنت كنت أميرها يا أب فضلاً كبير مو داب أهل وعشيرة وكأني بالشاعر علي سر الختم وهو يرثي الشيخ أحمد ود حمد ود أبو سن يعبر عن لسان خالنا ونحن نفتقد عمنا وشيخنا والزعيم محمد أحمد الحاردلو أحمد أبو سن. محمد أحمد الحاردلو ذلك الرجل الطويل القامة كرمح سمهري، الهادئ كالبحر في ليالٍ مقمرة، كان رمزاً تتجمع حوله القبيلة، حيث كان الرمز في ريرة والصباغ ومشروع حلفاالجديدة. كان الزعيم الذي يحرص ما وسعه الحرص على مشاركة مجتمعه في كل المناسيات في الأفراح والأتراح. كان يتبسط مع الصغير ويؤاخي الكبير. تجده عارفاً معرفة دقيقة بأهل البطانة قبائلهم وأنسابهم.. يلاقي من يزورونه متبسماً في وجوههم وبترحاب حار، يقبل على محدثيه باهتمام واحترام ويستمع اليهم بكل حواسه. يحدثك فلا تمل حديثه وهو يروي من القصص والنوادر والأشعار ما يجعل مجالسته امتاعاً ومؤانسة وزيادة في المعرفة والترويح عن النفس. فقد كان مهذباً لطيف المعشر يتذوق الشعر والأدب ويحب المرح والأنس والجمال كما أنه رجل تقي ورع. عرفنا الشيخ محمد أحمد حاردلو عمدة لمنطقة الصباغ ورئيس لمحكمتها، وكانت داره العامرة مقصداً للضيوف وأصحاب الحاجات، وكان منهم ود السقولابي «من قبيلة السقولاب البيجاوية» وهو رجل رقيق الحال كثيراً ما يتردد على دار المرحوم فيعطيه الشيخ ما تيسر من جوالات الذرة وغيرها، وكان ود السقولابي يلقب الشيخ ب «رحل التراب»، كما يعج ديوانه بالكثير من الزوار من أهل البطانة وغيرها وهو يغدق عليهم من كرمه، مستقبلاً إياهم برحابة صدر وابتسامة دافئة. وكانت الصباغ وقتها عامرة بالناس، إذ يؤمها أصحاب المواشي من أهل البطانة لسقيا مواشيهم من الآبار المنتشرة حول تلال القرية، كما يأتون لقضاء احتياجاتهم من سوقها العامر، وكان يقوم على هذه المتاجر نفر كريم من تمبول وأبو دليق وشندي، أذكر منهم آل الفضل من أبو دليق ومحمد عباس وإخوانه من قرية «حداف» ريفي تمبول، ونفر كريم من العبوداب بتمبول أيضاً. وكان كل هؤلاء يكنون للشيخ محمد أحمد الحاردلو كل احترام وتقدير، وقد أشعرهم بأنهم في بلد آمن يرحب بهم بين أهلهم الشكرية، فأحبوا البطانة واصبحوا جزءاً منها، وحملوا أجمل الذكريات عن البطانة وأهلها، وعلى رأسهم آل الحاردلو بزعامة شيخنا المغفور له بإذن الله تعالى. واختار أهل البطانة الشيخ الحاردلو نائباً للبرلمان في عهد الديمقراطية الثانية، كما ظل أحد أهم قادة العمل العام بمشروع حلفاالجديدة. «ولا تدري نفس بأي أرض تموت» هكذا خاطبنا القرآن الكريم، وعلمنا أن الإنسان لا يعلم الغيب ولا يدري في أي مكان ستفيض روحه. وهذا ما جال بخاطري وأنا أجلس في مجلس عزاء المرحوم بمدينة الحجاج وبحي العركيين بالتحديد، ذلك الحي الذي اختاره الفقيد وطناً جديداً بعد مغادرته قرية الصفية بحلفاالجديدة، فلماذا اختار الفقيد أن يسكن بحي العركيين بمدينة الحجاج؟ فشيخنا عارف بتاريخ قبيلة الشكرية وما يربطها من صلات مع القبائل الأخرى. وكان يفهم كل ذلك حين تزوج تلك السيدة الفاضلة من العركيين، فزواجه منها كان تجديداً لصلات قديمة ربطت الشكرية وخاصة أسرة آل أبو سن بالعركيين. فقد كان الشكرية حيران الصالحين من العركيين، وتعود صلة الشكرية بالعركيين إلى أيام دولة الفونج السنارية حين تزوج زعيم القبيلة عوض الكريم أبو سن السيدة الفاضلة التاية بنت الشيخ يوسف أب شرا، كما تزوج أحمد بك أبو سن ابنة خاله العركية ضوة بنت عبد الرحيم ود الشيخ يوسف أب شرا. وكان الشيخ يوسف أبو شرا يتمتع بمكانة مرموقة بين سلاطين الفونج، وقد طلب منه المك بادي الوساطة لإقناع الشكرية بدفع الضرائب، وقد نجحت وساطته، وبموجب ذلك أعطى الفونج الشكرية حق التصرف في البطانة، وتزوج أبو سن التاية بنت الشيخ يوسف أبو شرا. وكان الفقيد يعرف هذه الصلة ويدرك ما تحمله من وشائج القربى والدم بين عائلته والعركيين، فانتقل إلى الخرطوم أمام إلحاح أبنائه وبناته، وقد تقدمت به السن واعتلت صحته، فبنى منزله بحي العركيين وأحضر ناقته الحلوب من البطانة التي يعتمد كثيراً على حليبها، وكثيراً ما يقدم لضيوفه شراباً من اللبن القارص الذي تجود به ناقته. ولم تفض روح الفقيد الطاهرة بالأماكن التي ألفها وألفته «ريرة أو الصباغ أو الصفية بحلفاالجديدة»، تلك الأماكن التي كان بها رمزاً يتجمع حوله الناس، ولكنه كان يفارق تلك الأماكن راحلاً عنها لضرورة كسب العيش مع أفراد قبيلته. فغادرت أسرته ريرة فأقفرت، وغادرت الصباغ فاستوحشت، ورحلت عن الصفية فوجمت لفراقه. وشاء الله أن تفيض روحه الطاهرة بمدينة الحجاج بين أهله العركيين الذين لم يكن حزنهم على فراقه أقل من حزن أهله الشكرية عليه. وافتقدت البطانة رجلاً كان يستشيره الناس ويستأنسون برأيه، وكانوا يقدمونه في كل المواقف فيجدون فيه الرجل الحكيم الذي يعرف كيف يزن الأمور ويوفق بين الناس، وقد ظل هو ذلك الرجل المهذب جيد الاستماع لمحدثيه عميق التفكير، لا يتسرع في حكمه ولا يهزه هول المواقف. ألا رحم الله الشيخ الزعيم محمد أحمد الحاردلو وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.