سياط كثيفة من التقريع والنقد طالت الحزب الحاكم جراء تمريره لاستفتاء جنوب السودان في التاسع من يوليو الماضي في ظل بقاء القضايا العالقة دون حلول، وأبرزها أبيي والحدود والفرقتين التاسعة والعاشرة بولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، وبعد مرور أكثر من عام وتعدد جولات المفاوضات الرئاسية أفلحت الدولتان في توقيع اتفاق أديس أبابا في نهاية سبتمبر الماضي لحلحلة كل القضايا بينهما باستثناء أبيي ذلك أن السودان رفض مقترح رئيس الآلية الإفريقية ثامبو أمبيكي القاضي بإقامة الاستفتاء الخاص بها في أكتوبر لغياب المسيرية آنذاك عن المنطقة مما يُفضي إلى أيلولتها للجنوب باعتبار أن التصويت سيقتصر على مشيخات دينكا نوك التسع فقط وبعض المسيرية ولما كانت مهلة الأسابيع الستة التي قررها مجلس السلم والأمن الإفريقي للدولتين للوصول لتسوية مشتركة في ملف أبيي وفقًا لمقترح أمبيكي تنتهي بتاريخ 14 من الشهر الجاري فقد استبقت الدولتان التاريخ المذكور لتجوب وفودها عددًا من الدول الإفريقية وقطبي الشرق الآسيوي روسيا والصين طلبًا للدعم والمساندة لموقفها.. من جهتها تدعو الخرطوم لبقاء الملفات العالقة داخل البيت الإفريقي وأن تُمنح فترة أخرى للتفاوض مع جوبا بينما ترى الأخيرة التي تؤيد مقترح أمبيكي بشدة أن مرحلة التفاوض قد انتهت ولا بد من رفع قضايا الخلاف لمجلس الأمن الدولي وبانعقاده أمسية الجمعة الفائت أقر اجتماع السلم الإفريقي الذي انعقد على مستوى السفراء بصعوبة اتخاذ قرار في القضايا التي أمامه «أبيي والحدود والمنطقتين» وقرر رفع قضايا البلدين على مستوى الرؤساء بالاتحاد بالتزامن مع انعقاد القمة الإفريقية العادية في يناير المقبل.. إذن كسبت الخرطوم جزئيًا الجولة الأولى من النزاع بالحيلولة دون رفع القضايا لمجلس الأمن الدولي والإبقاء عليها في دائرة الاتحاد الإفريقي ولكن يبقى أن يناير القادم على مرمى خطوات قليلة فماهي احتمالات أن تحافظ الخرطوم على المكاسب التي حققتها على مستوى مجلس السلم الإفريقي أو انعكاس الآية بتحول إخفاق دولة الجنوب إلى نصر يؤيد مطالبه في القمة الإفريقية المرتقبة؟ ليس خافيًا أن دولة الجنوب تحظى بمؤازرة قوية من «المجتمع الدولي» لاسيما الولاياتالمتحدةالأمريكية وفرنسا وبيرطانيا وقد طالبت هذه الدول بإحالة خلافات الدولتين لمجلس الأمن الدولي، وتعتبر واشنطون من أكثر العواصمالغربية انحيازًا للجنوب منذ وقت مبكر فهي كانت من أشد الداعين لإقامة استفتاء الجنوب دون الاكتراث لقانونية الإجراءات المتعلقة به، كما قالت مندوبتها سوزان رايس لرئيس المفوضية محمد إبراهيم خليل في زيارتها للبلاد، ثم إنها حاولت إغراء المسيرية أكثر من مرة ماديًا وسياسيًا بالتصويت لصالح جنوبية أبيي، وقد زار مبعوثها الخاص بيرنستون ليمان الذي تنحى مؤخرًا قيادات أبيي وكرر عليهم العرض ذاته إلا أن تلك القيادات رفضته وقالت إنه يهتم للحيوان أكثر من الإنسان وكان ليمان في مؤتمر صحفي بجوبا عبَّر صراحة أن بلاده ستكون سعيدة حال قبول السلم الإفريقي لمقترح أمبيكي بخصوص أبيي.. الخرطوم نفسها أقرت بوقوع أبيي تحت الضغط والتأثير الأمريكي المباشر في مؤتمر صحفي عقده مساعد الرئيس نافع علي نافع بموسكو في إطار زيارته لحشد الدعم لموقف بلاده في الشأن ذاته، علاوة على ذلك يلاحظ عضّ أبناء أبيي بالجنوب علي جنوبية أبيي بالنواجذ باعتبار أن ذهابها للسودان يعني فقدانهم لمواقعهم في حكم الجنوب بحتمية انتمائهم للسودان حينها، علاوة على ذلك فإن نفوذهم الكبير داخل حكومتهم يسمح لهم بفرض أجندتهم عليها كما أنهم يمتازون بعلاقات دولية واسعة مثل لوكا بيونق وزير رئاسة مجلس الوزراء وفرانسيس دينق مندوب جوبا في مجلس الأمن الذي صاغ برتوكول أبيي وفقًا لناظر المسيرية مختار نمر في حوار منشور بالصحف، علاوة على ذلك ثمة انحياز إفريقي واضح لجوبا من قبيل يوغندا وكينيا وجنوب إفريقيا، وقد تجلى هذا الانحياز في البيان الختامي لمجلس السلم الذي أيد مقترح أمبيكي بشأن أمبيكي، في المقابل ثمة عوامل تحسب لصالح جوبا في مقدمتها الحق التاريخي والموضوعي للسودان عامة والمسيرية خاصة في المنطقة والذي تدعمه الوثائق التي بحوزة الحكومة نجاح الدبلوماسية السودانية في إقناع روسيا والصين بالوقوف لجانب مواقفها من خلال معارضتهما لنقل الخلافات لمجلس الأمن الدولي مؤشر جيد لإمكانية تفعيل هذه المواقف متى اقتضت الضرورة ذلك وربما كان شبح الحرب من أكبر الحوافز التي تدفع الخرطوم للحيلولة دون ذهاب أبيي للجنوب بأي ثمن، فقيادات المسيرية أعلنت وبوضح تام وفي أكثر من مناسبة أن المعادل الموضوعي لأية خطوات تفضي لذهاب أبيي للجنوب هو الحرب وأنها سترفع السلاح دون مشورة الحكومة آخرهم عضو المجلس الوطني مهدي بابو نمر الذي أكد استعدادهم لرفع الزناد والحرب دون أبيي عند الضرورة مما يعني اندلاع الحرب بين الدولتين من جديد في ظل الحرب القائمة اصلاً في المنطقتين.. وعامل آخر لا بد أن الحكومة تعمل له ألف حساب وهو أن التفريط في أبيي لربما يقضي على أي حظوظ سياسية مستقبلية للحزب الحاكم والذي يحمِّله الكثيرون مسؤولية انفصال الجنوب وعودة الحرب ثانية فكيف بضياع أبيي.