لقد كانت أنظمة الشرطة معروفة بمهامها في ممالك العالم ودوله ومجتمعاته من أقدم العصور، وفي السودان تحت الدولة المصرية والسودانية القديمة كانت الدولة تمارس جزءًا من مهام الشرطة الحديثة تحت إدارة وزير الجنوب وتحت إشراف حكام في المناطق. وكانت الدولة تمارس مهام الضبط والإدارة والبحث الجنائي والجمارك والحدود وإنفاذ القوانين المحلية وعند بدء دخول العرب والمسلمين للسودان في عهد الممالك المسيحية كانت الشرطة تقوم بتأمين المدن المسورة ذات الأبواب والتي كان لا يسمح للغرباء بالمبيت داخل أسوارها بل كانت الشرطة تقوم بإخراجهم عند المساء، ولعل هذا أحد التفاسير لمصطلح دار الأبواب أو الأبواب بتلك المناطق في السودان. وفي الدولة العربية الإسلامية كان لكل حاكم منهم صاحب شرطة وهو شخصية مهمة ذات خطر يقوم بكثير من الأعمال الشرطية وغيرها وأحياناً يوكل أمر أخذ البيعة للخليفة أو الوالي أو ولي العهد وعادة يكون صاحب الشرطة ممن يحظون بالثقة التامة لدى الدولة. ويكاد يكون في بعضها موكولاً إليه كثيراً من المهام بجانب الضبط والربط وقصصهم في كتب الأدب العربي والتاريخ زاخرةٌٌ بها.. والشرطة تتولى إنفاذ القرارات الرئاسية أو قرارات الوالي على السكان الطائع والعاصي كل بحسب الحالة. فالخليفة أو القاضي يصدر الأمر والشرطة تضمن التنظيم وحُسن ودقة وفورية وعدالة التنفيذ وهي منوط بها إدارة الحبوس. وأول دخول الشرطة الحديثة للسودان كان مع احتلال الحاج محمد علي باشا الألباني للسودان إذا ترك الإدارة المحلية في السودان في يد الإدارات الأهلية، كما هي في العهد السناري بشرط الولاء للدولة الجديدة التركية المصرية. ورتب أمر الشرطة مع الحكمداريين ومديري المديريات المختلفة. وأشهر من تولى هذا الأمر وجاء مع إسماعيل باشا، المباشرحنا الطويل، وكان معهم مجموعة الأعوان والباشا بوزق من بعض القبائل السودانية والمغاربة والمصريين والألبان والأرناؤوط والشركس وغيرهم. وكانت توكل لهم أعمال استتباب الأمن في المناطق المحتلة حديثاً والعمل على تحقيق أهداف الغازي الثلاثة الرئيسية: جباية الأموال والذهب وحصر الرجال «العبيد» وإخضاعهم وإرسالهم لمصر وتجنيدهم في الجيش المصري واستعان بهم محمد علي باشا على توطيد حكمه في مصر والحجاز والسودان، ومن أخطر المهام التي كانت توكل إليهم هي جمع الضرائب والإتاوات الثقيلة على الأهالي واستعمل المباشر حنا الطويل ومساعدوه وخلفاؤه أساليب غاية في القسوة مع المخالفين. وكانت الشرطة من أبغض الأشياء للمواطنين نتيجة للقسوة التي كانوا يستخدمونها مع الأهالي وقد بلغت هذه القسوة من الشرطة غايتها حين أذن لها بأخذ مرتباتها مباشرة من الأهالي نقداً وعيناً وبشراً عبيداً.الأمر الذي انحرف بالشرطة بعيداً عن مهامها الأصيلة في حفظ الأمن واستتبابه وإنفاذ القوانين وضبط المخالفين وفق إجراءات وقوانين وقواعد وأعراف ومعاملات محددة، ولما بلغ هذا الأمر غايته أصدر محمد علي والحكمداريون والخديويون من بعده تعليمات للشرطة حددت مهامها وأبعدتها تماماً عن مهام جباية الضرائب والمقررات خاصة في عهد سعيد باشا، وقد قصر سعيد باشا واجبات الجيش في الحفاظ على الأمن الخارجي من خلال حراسة حدودها من الانتقاص وتأمين ما يليها من مباني ومخازن للسلاح والمهمات، وأوكل بقية المهام الداخلية للشرطة وأنظمة الإدارة المحلية من خفر وخلافه وفي عهد المهدية لم يتم إنشاء نظام خاص للشرطة بل تم إيكال المهام الخاصة للأمن والنظام العام والسكينة العامة والمخالفات للجيش والعمال المختلفين. وأصدر عدداً كبيراً من المنشورات التي تؤسس لحياة هادئة ومنضبطة وفقاً لإحكام الشريعة الإسلامية خاصة فيما يلي مخالفات النظام العام والتعدي على حرمات وأملاك الآخرين. وعند احتلال السودان في العام 1898م بواسطة الجيش الإنجليزي وبعد عقد اتفاقية الحكم الثنائي أصدر الحاكم العام سردار الجيش المصري اللورد كتشنر أوامر وقوانين تنظيمية جديدة. أول هذه القوانين قانون تحقيق جنايات السودان للعام 1899م ليتم وفقه تنظيم العمل الأمني والجنائي والقضائي وما يتبع ذلك من قوانين ولوائح ومنظمة. وكانت الشرطة التي تعني كل من عمل في جهاز الشرطة بغض النظر عن رتبته. موكولاً لها إنفاذ كثير من القوانين والمخالفات الجنائية والمدنية وفق توجيهات قضائية وإدارية مع الأجهزة المختصة، وأهمها حفظ الأمن والنظام العام داخل القطر وكانت في بدايتها تعمل تحت إمرة ضباط من الجيش الإنجليزي في العاصمة أو مع مفتشي المراكز والمديرين في الأقاليم وكان هؤلاء في بدايتهم كلهم من الإنجليز. ومن نقاط الارتكاز المهمة في تطور الشرطة في السودان قانون 1905م الذي جعل الشرطة تابعة لمديري المديريات في أداء مهامها. وفي العام 1908م صارت سلطة إصدار اللوائح والمرتبات والترقيات والتدريب مهاماً مركزية وكان ينوب عن الحاكم العام في جانب الأمن والإدارة السكرتير الإداري والذي تم تعيين مساعد له فيما بعد ليكون مسؤولاً مباشراً عن الشرطة. وقد اهتم الحاكم العام السيرلي ستاك الذي تم اغتياله في القاهرة وخلفه لتطوير الشرطة على النمط الهندي وقد أحضر مدير الشرطة الهندي لوضع هذا النظام، وقد كانت تصاغ القوانين في السودان وفق القانون الهندي وفي تطور آخر مهم تم إنشاء مدرسة لتدريب الشرطة وتطورت حتى أصبحت فيما بعد ما عرف بمدرسة الشرطة والإدارة والتي تم إنشاؤها في العام 1937م عقب إصدار قانون الشرطة للعام 1928م. وقد كان من ضمن المهام التي تقوم بها هذه المدرسة تدريب ضباط الشرطة والإدارة حيث كانت الإدارة الإقليمية أي الحكومات المحلية جزءاً من مهام السكرتير الإداري الذي كان يشرف على المديريات. ولعل هذا هو السبب الذي جعل للضباط الإداريين ومفتشي الحكومات المحلية زياً وبرانيط وأشرطة تحاكي ما يتزيا به ضباط ورجال الشرطة.