في الندوة التي أُقيمت حول معوِّقات الزراعة وتدهور الإنتاجية أخذ بعض الحضور الأمر على محمل الفكاهة وقالوا إن هناك «زول عمل لينا عمل» وداقي لينا بربندي» في القطاع الزراعي.. مما قد يستدعي إيجاد كجور أو فكي للقيام بفك العمل وقلع البربندي.. ومع ذلك أعتقد أن مشكلة الزراعة في السودان يمكن تبسيط قضاياها في الجوانب الآتية: أولاً: اعتمدت الزراعة في السودان على القطاع المطري بدرجة عالية خاصة في إنتاج الذرة والحبوب الزيتية.. ومن المعروف أن معظم المناطق المطرية في البلاد تقع في حزام الساڤنا الفقيرة التي تمتاز بأمطار قليلة لا تزيد في أحسن حالاتها عن 350 ملم في العام، وهذه الأمطار غير مستقرة التوزيع خلال فترة الإنتاج وهي غير كافية بدرجة مأمونة إلا باتخاذ حزمة من التقانات للزراعة الجافة. ثانياً: تم توسع عشوائي في منح المشروعات والحيازات المطرية بحيث وصلت المساحات الموزعة داخل التخطيط إلى أكثر من خمسين مليون فدان إضافة إلى عشرة ملايين فدان أخرى تعتبر حيازات تقليدية، وبالطبع فإن هذه المساحات قد أُنشئت على حساب الغطاء الشجري المكوَّن من غابات الهشاب والطلح المنتجة للصمغ العربي والتي أصلاً هي المكوِّن الأساسي لحزام الساڤنا الفقيرة.. وهذا القطع غير المنظم أدى إلى المزيد من تذبذب الأمطار وعدم استقرارها ونزوح السكان.. ثالثاً: ظلت العمليات الفلاحية والمعالجات الزراعية تسير بصورة نمطية دون تحسين في الطرق الزراعية أو وسائلها.. وهذه الطريقة النمطية هي ذاتها التي بدأ بها الخواجات من الحرب العالمية الأولى باستعمار الجرار «والدسك» العريض لإنتاج الحبوب لإمداد الجيوش البريطانية باحتياجاتها من الحبوب الغذائية.. ولهذا السبب فقد ظل استغلال الأرض محصوراً في الطبقة العليا من التربة الزراعية والتي لا تزيد عن خمس بوصات أو عشر بوصات وهو ما يُعرف عند المزارعين ب«كرش الواطة».. ولهذا ففي خلال أكثر من خمسين عاماً ظللنا نحرث في هذه الخمس بوصات السطحية ونفلح فيها وهذا ما جعل الجزء الأسفل من التربة متصلباً لا يقبل أعمال الفلاحة ولا يقبل امتصاص المياه وتكون ما يعرف بالطبقة الصلبة التالية للخمس بوصات.hardpan رابعاً: ظل مزارعونا ومنتجونا في طول حزام الساڤنا يعاملون الأرض والنشاط الزراعي بطريقة «القُمَارْ».. فيأتي المزارع في أول الموسم المطري و«يدفق» البذور في الخمس بوصات ثم يأتي آخر الموسم للحصاد.. وهذا يعني أن المزارع غائب تماماً عن مزرعته طول العام ولا يراها أو يرعاها إلا في موسم الخريف الذي لا يتعدى الثلاثة أشهر.. خامساً: ظل مزارعونا ومنتجونا غير مؤهلين فنياً ولا يعرفون من ممارسات الزراعة وتفاصيلها إلا ما تعلموه من آبائهم وأجدادهم القدماء على طريقة الزراعة التقليدية وللاكتفاء الذاتي.. ولم تتوفر برامج وخطط لتأهيل المزارعين من الناحية الفنية.. وظلت هيئة الزراعة الآلية غير كافية لتقديم النصح والإرشاد للمزارعين بحكم قلة العاملين فيها وعدم مقدرتهم على تغطية هذه المساحات الشاسعة.. وكان الأجدر أن يتم ربط التصديق بأي مشروع زراعي تبلغ مساحته ألف فدان بضرورة أن يكون مشرفاً عليه خريج زراعي.. وبهذا نكون قد أوجدنا فرصاً لتشغيل خريجي الزراعة وفي ذات الوقت عملنا على متابعة إدخال فنون الزراعة وخرجنا بها من النمطية.. وهذا الأمر أشبه بتصريح قيام الصيدليات أو العيادات فلا يتم التصديق بمنشأة دواء إلا في وجود صيدلي. سادساً: ظل قطاع المنتجين في الزراعة المطرية معتمداً على التمويل الموسمي الذي تطرحه المصارف كل عام فصار المزارعون يقومون على الزراعة لأغراض الحصول على التمويل ثم يقومون بالحصاد لأغراض تسوية الديون أو إعلان الإعسار والتعثر وفيما بين الاثنين يقومون بتوفير جزء من التمويل لسداد الديون القديمة أو لإعاشتهم مؤقتاً إلى حين الموسم الجديد. ولكل هذا ظل انتاجنا المطري لا يزيد عن جوال واحد للفدان أو جوالين في المتوسط وقد يقيم المزارع احتفالاً إذا ما أنتج ثلاثة جوالات في الفدان.. وهو ما أدى إلى أن ينحصر إنتاجنا في حجم إجمالي لم يزد في أحسن حالاته عن ثلاثة أو أربعة ملايين طن في العام في كل مساحة الخمسين مليون فدان التي نستزرعها عاماً بعد عام. وبمقارنة بسيطة مع البرازيل فهي تنتج في العام مائة وعشرين مليون طن من الحبوب، ودولة الهند تنتج مائة وخمسين مليون طن.. ومصر المجاورة لنا تنتج أكثر من سبعة ملايين طن في مساحة لم تزد عن ستة ملايين فدان منذ عهد محمد علي باشا في القرن التاسع عشر. { كسرة: وعلى الرغم مما ذكرناه في المقال إلا أن نتائج هذا الموسم جيدة جداً لا يقف أمامها إلا قلة العمالة وندرتها الأمر الذي قد يؤدي إلى أن يقوم المزارعون ببيع مشروعات الذرة لأصحاب الحيوانات لرعيها.. وفي الجانب الآخر تكاد دولة الجنوب أن تموت من الجوع وسعر ملوة العيش عشرين ألف جنيه والجنوبيون يهجمون على المشروعات في أطراف ولاية النيل الأزرق لسرقتها ليلاً والهروب بها.. وسعر البصلة خمسة آلاف جنيه وسعر جركانة الزيت مليون جنيه وجوال السكر الصغير مليون جنيه.. وتعاني بلادهم من مجاعة وعدم استقرار أدى إلى رجوع الكثيرين منهم إلى السودان والمطلوب إيقاف رجوعهم لنا.