الانجليز عندما توهطوا في أرض السودان... بعد (كسرة) كرري وضعوا خطة اقتصادية بلغة اليوم استراتيجية.... تقوم على فصل السودان عن مصر واستنباط تكاليف إدارة السودان من موارده الذاتية... بمعنى ألا تدفع الخزينة البريطانية سنتاً واحداً .. فكانت ميناء بورتسودان وسكك حديد السودان ثم مشروع الجزيرة... بعد خروج الانجليز لم تشهد الدولة الوطنية خطة اقتصادية... اللهم إلا خطة عبود العشرية التي أجهزت عليها ثورة أكتوبر... وهي في بدايتها، وقد كانت بداية موفقة ... وهذة حقيقة سهلة الإثبات.. بهذة المناسبة عندما كتبت هذا الكلام قبل أسبوعين وعلقت عليه بالقول الله لاكسب النخب السياسية التي قامت بثورة أكتوبر... انبرى لي أحدهم في صفحتي على الفيس بوك ووصفني بموالاة العسكر واستخدم لغة هابطة.. طيب يا سيد الذين قاموا بأكتوبر هم الشيوعيون والإخوان المسلمون فالشيوعيون قاموا بانقلاب مايو 1969 والإخوان قاموا بانقلاب يونيو 1989... فإذن الشغلانة لم تكن مبدئية أو رفضاً لحكم العسكر... واتهمني آخر بأنني أتجنب مهاجمة الكيزان، نعم أنا لا أهاجم الكيزان ولا أهاجم القحاتة لا أهاجم الحكام الحاليين ولا أهاجم أي فصيل سياسي.... ولكنني أنتقد وأكشف الخلل ما استطعت إلى ذلك سبيلا... فهناك فرق كبير بين الهجوم والنقد ... عليكم الله البلد دي ناقصة شتائم وتردي أخلاقي وتنابز بالالقاب؟.. فالصاح أن تلعب على الكرة وليس على جسم اللاعب... أذكر مرة أن الأستاذ ضياء الدين بلال استضافني في سهرة تلفزيونية رمضانية والانقاذ في قمة سطوتها ... فقلت له إنني لست معارضاً للانقاذ ... ولا للحكومة التي كانت قبلها... ولا الحكومة التي تأتي بعدها... فكل الذين حكموا السودان والذين سيحكمونه لم يأتوا بإرادة الشعب... عساكر على طائفيين كلهم حكام كسر رقبة ... فالنهج الاصلاحي دوماً أفضل من النهج الثوري ... فهذة البلاد كفاها ثورات... كفاها جعجعة فارغة... وكفاها كواريك.. عودة لموضوعنا فالاشراقات الاقتصادية التي حدثت في السودان المستقل على قلتها كانت بمبادرات فردية ولم تكن منطلقة من خطة موضوعة (استراتيجية)... أو خريطة مرجعية أي ما يسمى بالماستربلان Master Plan... فدوما المشاريع ذات الطابع الفردي سهلة الهدم ... والأخطر أنها تتعرض لمعارضة أصحاب المصلحة من الواقع السائد ... لدرجة أنني اقترحت ذات مرة أن أي دراسة جدوى لأي مشروع في السودان يجب أن تبدأ بالإشارة للذين يعارضونه... وكيفية تجنبهم بالإغراء أو بالاقناع أو بالتحييد... على حسب مقتضي الحال... وإلا قل لي بربك مشروع عظيم جبار مثل مشروع الجزيرة يعطي فقط عشرة في المائة من طاقته ... المبادرات والخطط والدراسات التي كتبت في إصلاحه تسد عين الشمس... ولكنها كلها لم تنجح... لماذا؟ لأن جماعة المصلحة المستفيدة من وضعة المهتري الحالي قوية وقادرة.. وهذة الجماعة موجودة في الحكومة المركزية... وفي الولاية... وفي بركات حيث إدارة المشروع... لا بل حتى في اتحادات المزارعين.. هذة الجماعات تستفيد من عطاءات المدخلات.. أسمدة مبيدات ... آليات.. خيش.. وكل الذي منه.. ومن التحضير ومن التسويق... وهاك يا كومشينات... والمعارضة هنا تتمظهر في شكل سياسي أو مهني أو حتى عقلاني زائف... وكلها تقوم على (الخم) لأنها تقوم على تغييب الوعي ... آخر ضحايا تلك المحاولات الإصلاحية في مشروع الجزيرة كانت الزراعة التعاقدية... هذة الزراعة التعاقدية كنمط من علاقات الإنتاج أجيزت بتشريع قومي... حدد فيها واجبات كل طرف فالتعاقد أساسا بين المزارع والمستثمر أي الشركة... واجبات الشركة القيام بكل الأعمال الالية وتوفير المدخلات وإدخال التقانات والدعم الفني... المزارع يقوم بالأعمال الفلاحية... الدولة تأخذ ضريبة الماء والضرائب العامة... الإدارة ترعى أصول المشروع وتنفيذ الاتفاق ... وعلى هذا الأساس يحدد نصيب كل طرف... ولكن للأسف لم تكن هناك حملة توعية بأهمية الزراعة التعاقدية... وما يمكن أن تحدثه من تطور لكي يتبناها المواطن ويدافع عنها ... ولم تظهر الحكومة المركزية أي دعم سياسي لها ولم تقل إنها تبنتها كاستراتيجية زراعية... فأصلا الحكومة غير مهتمة بالزراعة... وجبنت الشركات فلم توفر كل المطلوب... وقد كان بعض موظفي الشركات في غاية السوء ... والمزارع كعادته قابلها باللامبالاة.... أما إدارة المشروع خاصة في مستوياتها الدنيا فقد كانت العائق الأكبر لأنها شعرت بأن دورها قد تقلص وأن طرفي الاتفاق إذا نفذا المطلوب فإن الإدارة سوف تصبح شبه عاطلة... ولكن رغم ذلك أحدثت الزراعة التعاقدية طفرة في الإنتاج في المساحات المحدودة التي زرعت بموجبها ... وزادت من التنوع الزراعي... حيث زرعت محاصيل وخضروات لم تشهدها الجزيرة في تاريخها .. لقد شهدت انتاج الثوم والشمار والحلبة والخص والسمسم والدخن والكركدي... كما شهدت إنتاج البامية والشمام والبطيخ للتصدير ... أحد المزارعين قال بعد دا ما فضل لينا إلا نزرع مسامير... وآخر رصاصة رحمة أطلقت على الزراعة التعاقدية كانت سياسية إذ رأى القائمون على الأمر أن القطاع الخاص يجب ألا يعطى فرصة في المشروع... وأن الدولة هي التي يجب أن تقوم بالتمويل وأن اتحاد المزارعين بصورته القديمة هو المعبر الوحيد عن إرادة المزارعين.. اشتراكية جد... وهؤلاء هم الذين عناهم الدكتور إبراهيم البدوي وزير المالية السابق عندما قال إن العقائديين في الحرية والتغيير هم الذين أفشلوا خطته الاقتصادية للخروج بالبلاد من أزمتها المستفحلة.. طيب يا جماعة الخير الآن والدولة هي فيما هي عليه هل يرجى منها تمويل ؟ رأس المال الوطني والذي هرب من أول طلقة وهو أصلا جبان ومتردد هل يعول عليه؟... إذن لم يبق أمامنا إلا الخارج وفي الخارج المستثمرين على قفا من يشيل ولكن الطريقة المتبعة في الاستثمار الزراعي هو اقتطاع المساحات الكبيرة... عشرات أو مئات الآلاف من الافدنة ولمدة قرنية لأن البنيات الأساسية للزراعة عالية التكلفة... اسماه البعض احتلال مصلح.. وهذا النوع من الاستثمار فشل في السودان .. الراجحي ونادك وأمطار وغيرها كلها نجت بجلدها من السودان... نتيجة الفساد وعدم الاستقرار والمحرشون من الأهالي بحجة أن الأرض لهم وغصبت منهم... إن من نعم الله علينا في السودان أن الزراعة فيه تقوم على الحيازات الصغيرة كما هو الحال في مشروع الجزيرة وكثير من مناطق الزراعة المطرية... وفي تقديري أن هذه الخاصية يجب الإبقاء عليها لأنها الأفضل في توزيع الثروة وفي مكافحة الفقر... وهي التي تجعل المواطن العادي الذي هو المزارع يرحب بالمستثمر ويحميه لأن أرضه ستبقى في ملكه... كما أن التقانات الحديثة أصبحت لا تحتاج إلى مساحات شاسعة.. فالانتاج الرأسي هو المطلوب... فالزراعة التعاقدية تحل معضلة الفشل الاستثماري في البلاد... ليس أمام السودان الآن إلا اللجؤ للدول المتطورة زراعيا والتي لها القابلية في التمدد الزراعي خارج أراضيها ولعل على رأسها الصين وإسرائيل وكندا... أما الدول التي تطورت زراعيا ومارست الزراعة التعاقدية داخل أراضيها... ولم يشهد لها استثمار زراعي خارج أراضيها وقد تكون لها القابلية في ذلك... فهي البرازيل والهند ومصر....الأولى في إنتاج قصب السكر والثانية في إنتاج القطن اما مصر ففيهما الاثنين... فإلى أين يمكن أن يتجه السودان؟... وهل الأبواب مشرعة أمامه لكي يختار؟...سردية أن السودان ... حلوة سردية دي.. له موارد زراعية مهولة أمر يدركه ويعترف به كل العالم تقريبا... و أن السودان يمكن أن يسهم في حل مشكلة الغذاء العالمية أمر شائع... هل هناك من يريد أن يبعد أهل السودان من مواردهم هذه ويتولى أمرها بنفسه بحجة أن السوادنة عاجزون ؟ لقد قالها كيسنجر من قبل عن النفط إذ قال إن النفط نفطنا.. نحن الذين اكتشفناه واستخرجناه ونحن الذين نستخدمه ... كل هذا يدعو أهل السودان أن ينتبهوا ويسرعوا ويخرجوا من القوقعة التي حبسوا فيها أنفسهم... ويمدوا يدهم لمن يضعها على يده... ومن ثم يتم الاتجاه نحو الأرض لإعادة الأعمار أو البناء من جديد.. ولكن هنا يثور السؤال من الذي يقبل بأن يضع يده في يد السودان الذي حاله يغني عن سؤاله ؟ خليكم معنا إن شاء الله ونعتذر بشدة عن الإطالة. د. عبد اللطيف البوني إنضم لقناة النيلين على واتساب مواضيع مهمة ركوب الخيل لا يناسب الجميع؟ أيهما أصعب تربية الأولاد أم البنات؟ جسر الأسنان هل تعقيم اليدين مفيد؟ الكركم والالتهابات أفضل زيوت ترطيب البشرة