لعقود طويلة ظللنا نسمع بشعارات صارت تقريباً ثوابت عبر الأنظمة والحكومات المتعاقبة تلك المشكلات الدائمة والتي كانت تؤرق المواطن وتقضّ مضجعه وتقلق منامه دون أن يحرِّك ذلك في الواقع ساكناً ودون أن يشكل مجرد هاجس للمسؤولين.. تلك كانت مياه الأبيض وكبري رفاعة.. وكهرباء بورتسودان وقبل أربعة عقود تقريباً أُضيفت إلى تلك المشكلات الثلاث واحدة أخرى في عقد السبعينيات وهي تعلية خزان الروصيرص لأجل تحقيق جزء من حصتنا في المياه كانت تذهب هدراً للبحر الأبيض المتوسط وتموت مشروعاتنا الزراعية عطشاً لقلة المياه وانقطاعها عندما تقل إيرادات النيل أو تزيد فيكون الأطماء الذي يسد مدخل السد سبباً في عرقلة إنتاج وتوليد الكهرباء.. وظللنا كذلك نردد عبر الأنظمة والحكومات كلما جاء موعد الأول من يناير نحضر الكلمات بعبارات منمقة لنقول للشعب إننا سنحقق الاستقلال الحقيقي بأن نزرع ونعتمد على إنتاجنا بل ونكون سلة غذاء العالم العربي ولكننا ظللنا حول الاثنين والخمسين عاماً التي انقضت على التوقيع على اتفاقية مياه النيل عام 1959 وتقسيم الحصص لا نحقق أيًا من الشعارات تلك ولا نحقق الاكتفاء الذاتي ولا نضع في السلة أية كميات من الغلة التي ستغيث العالم العربي بموارده المالية الضخمة التي تذهب إلى استيراد الغذاء والغذائيات من أميركا اللاتينية وآسيا.. وظللنا نحن في «مكانك سر» لعقود وعقود.. فيصح علينا قول الشاعر العربي: كالعيس في الصحراء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول!! أذكر ونحن نعيش أزماتنا الغذائية أواخر ثمانينيات القرن الماضي أول تسعينياته.. أن باخرة مليئة بالقمح قامت الحكومة بشرائه بأموال السودان الحرة.. تلك الباخرة وصلت إلى مياهنا الإقليمية في ميناء بورتسودان ثم تحركت بتعليمات من السادة «سادة العالم» لخارج الميناء قبل أن تفرغ شحنتها التي هي ملكنا.. اندهش بعضنا.. وبعضنا تفهم الأمر ومن تلك الحادثة وُلدت قصيدة الشاعر محمد عبد الحليم «نأكل من ما نزرع ونلبس مما نصنع.. وبالإنتاج لن نحتاج» شعار رفعه الزراع في الشمالية وقمحنا كثير بكفينا!! كهرباء بعد بورتسودان وأزماتها التاريخية حلت وانتهت وصارت جزءًا من الإرث التاريخي وصارت بورتسودان عروساً للبحر كما تغنى لها المغنون والشعراء.. ومياه الأبيض انتهت أزماتها وحُلَّت مشكلاتها.. ولكن بموجب ذلك زاد استهلاك المياه مما يقتضي العمل على استدامة توفر المياه الصالحة للشرب واستعمالات الإنسان وكبري رفاعة الحصاحيصا صار حقيقة واقعة بعد أن كان ضمن منظومة من الأحلام الكبرى وشعاراً من شعارات الأحزاب كلما حان موعد الانتخابات النيابية أو الرئاسية.. أو الولائية.. وتعلية خزان الروصيرص صارت حقيقة واقعة وبالصورة الجديدة التي تتم فيها حل مشكلات المواطنين المتأثرين بالتعلية وإحداث نقلة جديدة في حياتهم في مجال الخدمات، التعويضات وكيفية الاستفادة من التعلية نفسها باستحداث أنماط جديدة من الزراعة ومساحات جديدة تُروى إضافة إلى الزراعة المطرية التي تعتمد عليها ولاية النيل الأزرق وسكانها. كانت تلك معضلات أدت إلى خلق الكثير من التعقيدات في تحقيق برامجنا الزراعية التي يعتبرها خبراء التخطيط أساساً متيناً لاستقلال قرارنا السياسي.. وحسنًا فعلت إدارة الكهرباء باللجوء هذا العام إلى كهربة المشروعات الزراعية التي صارت تشكل الأساس في إنتاج القمح والفول في الولاية الشمالية والمزارع هنا بعد أن هجر الزراعة لسنوات لأسباب عجز الإنتاج عن تغطية تكاليف الزراعة من إعداد للأرض وتوفير الجازولين والأسمدة والبذور فصارت الكهرباء هي المنقذ لشعار تحرير القرار، قرار المواطن من الارتهان للتمويل ثم السداد في المواعيد أو الذهاب إلى السجن.. وهكذا نستطيع أن نقول على الفم إننا على الطريق الصحيح نحو تحرير قرارنا برفع شعار من لا يملك قوته لا يملك قراره فهنيئاً لإدارة السدود بكسر حاجز التعلية.. واكتمال الإنجاز مع أعياد الاستقلال لنقول بالصوت العالي: «اليوم نرفع راية استقلالنا».