الناظر إلى مسيرة الدولة خلال أكثر من نصف قرن من الزمان هو عمر الاستقلال يلاحظ بوضوح تام أن تراجعاً كبيراً ظل يأخذ بتلابيبها على الأصعدة السياسية والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية..!! وقبل أن نجيب عن السؤال الكبير: كيف حدث ذلك؟!! لابد أن نجيب أولاً عن السؤال المُفجع: ما الذي حدث على مستوى تلك الأصعدة المشار إليها؟!! أولاً: على الصعيد السياسي: خلال ال «57» عاماً الماضية باستثناء عامي الاستقلال الأولين تراجعت الحركة السياسية إلى الحد الأدنى، وتسللت إلى المسرح السياسي عناصر انتهازية تسنَّمت مواقع مهمة وحساسة أدارتها بكثير جدًا من الانتهازية السياسية، وقليل جدًا من التجرُّد ونكران الذات، فوضعت المصلحة الخاصة والحزبية أعلى سُلَّم أولوياتها، والمصلحة العليا للبلاد أدنى السُّلَّم، وشهد المسرح السياسي أسوأ أساليب الصراع وأقبحها، صراع على المصالح وحول المواقع والمناصب، وكانت النتيجة أن حدثت انشقاقات مدوِّية داخل أحزاب الحركة الوطنية التي أبلت بلاءً حسنًا في معركة الاستقلال، وتصدَّع البناء الحزبي، فكانت الأحزاب أشبه بالثوب القديم البالي الذي اتسع رتقه على الراتق في كل عام، وانفجرت الخصومات بشكل مزعج ومخيف، حتى داخل «البيت» الواحد ناهيك عن الحزب الواحد، فتصاعد الخلاف بين المراغنة والزعيم الأزهري بصفة خاصة، وبين الاتحاديين والختمية بصفة عامة، وشهد المسرح السياسي لاحقًا الفجور في الخصومة بين الصادق المهدي وعمه «الهادي» حتى وفاة الأخير على يد أمن مايو على الحدود السودانية الحبشية، وكذلك الخلاف بين الصادق وعمه «أحمد المهدي»، وهي الخصومة التي مازالت عصية على أية تسوية سياسية يقوم بها البشر على الأرض، بعد أن أعيت الطبيب المداوي... إذن هذا قليل مما حدث من تراجع ونكسات ونكبات وتقزيم للحركة السياسية التي تعاني الآن أمراض الشيخوخة وهشاشة العظام وتقود البلاد في راهن الوقت إلى نفق أظلم مما نحن عليه الآن. بعد محاولتنا الإجابة عن السؤال الأول: « ما الذي حدث ؟!» نحاول أيضًا إجابة السؤال الثاني: «لماذا حدث ؟!» وذلك من خلال المعطيات التالية: «1» بعد تطور الصراع لجأ بعض السياسيين إلى حسم الخلافات عن طريق المؤسسة العسكرية، حيث تغلغلوا إلى داخل المؤسسة المذكورة ودبروا أمرهم بليل فكانت صرخة أول مولود غير شرعي في «17» نوفمبر «1958»، هذا التدبير أصبح فيما بعد سُنة سيئة لكل القوى السياسية التي تشعر بالضعف وعدم المقدرة على تحقيق طموحاتها السياسية بطرق مشروعة، وتوالت بعد ذلك الانقلابات العسكرية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، فكان انقلاب نميري بمعاونة وتدبيرالحزب الشيوعي، وانقلاب البشير بتدبير وتخطيط كامل من زعيم الجبهة الإسلامية حسن الترابي. «2» وكنتيجة حتمية للنقطة أعلاه هيمنت على الساحة السياسية على فترات متفرقة أنظمة شمولية دكتاتورية استبدادية، عطَّلت الحياة السياسية الطبيعية، والحريات، والنمو الطبيعي للحركة السياسية والحكم الراشد، وفرَّخت الفساد بكل صوره القبيحة الظاهرة والمستترة ونشرت المحسوبيَّة والقبليَّة والولاءات السياسية بوجهها السالب في الحياة السياسيَّة، ولهذا عمَّ التدهور كل المجالات وأوجه الحياة العامة. «3» ومن أسباب تراجع الأداء السياسي والخمول الفكري شيوع معايير الولاءات السياسية والقبليَّة والترضيات والموازنات، وكنتيجة لذلك انزوت الكفاءات والخبرات والقيادات النزيهة المتجردة وتسلل إلى دفة القيادة الانتهازيون والنفعيون والمهووسون عبر سُلّم الولاء السياسي. «4» وتأسيسًا على النقطة أعلاه تدهورت الخدمة المدنية التي ورثها السودان من المستعمِر بعد إذ كانت هي الأولى عربيًا وإفريقيًا من حيث الأداء الجيد والشعور بالانتماء القومي، وبلغ التدهور أدنى مستوى فعمَّت الفوضى والمحسوبية واتكأ الأداء على الولاء السياسي للحزب الحاكم فهو جواز السفر إلى البقاء في الوظيفة والترقيات والحصول على المخصصات والامتيازات، دون أدنى نظرة للأداء والكفاءة والخبرات. ثانيا: على الصعيد الاقتصادي: اقتصاديًا، باستثناء حقبة السبعينيات شهد السودان تدهورًا مريعًا في القطاع الزراعي، والتدهور في هذا القطاع يعني بالضرورة التدهور الاقتصادي باعتبار أنه العمود الفقري للاقتصاد السوداني فتراجعت مؤشرات الإنتاج الزراعي وتقلصت عائدات صادرات المحاصيل النقدية مثل القطن والسمسم وغيرهما والغابية «الصمغ» وبلغ التدهور منتهاه بعد تصدير البترول فتم التركيز على الموارد «الناضبة» وأهملت الموارد «المتجددة» فكانت النتيجة كارثية بعد ذهاب نفط الجنوب، وبذات القدر من الإهمال الذي لقيه قطاع الزراعة من الإدارة الاقتصادية حظي أيضًا قطاع الثروة الحيوانية وكذا الصناعة الوطنية التي أثقلت كاهلها الضرائب والرسوم الجمركية وتعددت أوجه الجبايات غير القانونية حتى أُصيبت صناعتنا الوطنية بأمراض فقدان نقص المناعة المكتسبة فأصبحت لا تقوى على منافسة السلع المستوردة التي وفّرت لها دولها كل أسباب المناعة والقوة والقدرة على المنافسة، وتأرجحت معدلات التضخم ارتفاعًا وانخفاضًا، وتدهورت أسعار العملة الوطنية باستثناء حقبة السبعينيات، وامتدت أوجه التدهور إلى قطاع النقل مما جعل أفئدة الناس تتلفت إلى الماضي رغم تخلفه.. أما كونه لماذا حدث ذلك في المجال الاقتصادي، فالإجابة تكمن في سبب واحد وهو: سوء الإدارة الاقتصادية، وهذا السوء مرده إلى ضعف الكفاءات وانزواء الخبرات بعد أن أصبحت الولاءات السياسية تتحكم في كل شيء وتمد أذرعها الأخطبوطية لتأخذ بناصية كل شيء وتتغلغل إلى جميع المجالات والقطاعات!! ثالثًا: الصعيد الاجتماعي: فإذا كان الوضع السياسي بكل سوءاته وإسقاطاته انعكس سلبًا على الوضع الاقتصادي من أطماع شخصية وحزبية، وظلال سياسية على النشاط الاقتصادي ومحسوبية في العطاءات، وتسهيلات وامتيازات وإعفاءات، واحتكار للسلع في أوقات الندرة وضعف في الإدارة الاقتصادية، فإن الوضع الاقتصادي المتدهور انعكس أيضًا بوجهه القبيح على الحياة الاجتماعية، فتصاعدت معدلات الفقر، وارتفعت نسبة العطالة في أوساط الشباب وكذا العنوسة والطلاق، وكنتاج طبيعي لكل ذلك تلاشت الطبقة الوسطى في المجتمع وأصبحت هناك طبقتان فقط «الأغنياء جدًا» و«الفقراء جدًا». رابعًا: على الصعيد الثقافي: أما على الصعيد الثقافي فيمكن القول إن كل إسقاطات الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، أثّرت بشكل جوهري وأساسي في اضمحلال الثقافة وأدى إلى تدني مستواها بشكل لا تخطئه عين، وهذا أمرٌ طبيعي في ظل مثل هذه الظروف...إذن هذه محاولة للمساهمة متواضعة جدًا في تشخيص أزمتنا الشاملة نضعها أمام المهتمين بالشأن العام.