مسيرات في مروي وقصف في أمدرمان والفاشر مهددة بالاجتياح    السودان يطلب عقد اجتماع عاجل لمجلس الأمن الدولي لمناقشة العدوان الإماراتي    البرهان: منح ضباط صف وجنود القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى والمستنفرين من المواطنين المشاركين في الحرب نوط الكرامة    أزمة لبنان.. و«فائض» ميزان المدفوعات    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا "أدروب" يوجه رسالة للسودانيين "الجنقو" الذين دخلوا مصر عن طريق التهريب (يا جماعة ما تعملوا العمائل البطالة دي وان شاء الله ترجعوا السودان)    شاهد بالفيديو.. خلال إحتفالية بمناسبة زواجها.. الفنانة مروة الدولية تغني وسط صديقاتها وتتفاعل بشكل هستيري رداً على تعليقات الجمهور بأن زوجها يصغرها سناً (ناس الفيس مالهم ديل حرقهم)    اجتماع بين وزير الصحة الاتحادي وممثل اليونسيف بالسودان    آمال ليفربول في اللقب تتضاءل عند محطة وست هام    شاهد بالفيديو.. في أول حفل لها بعد عقد قرانها.. الفنانة مروة الدولية تغني لزوجها الضابط وتتغزل فيه: (منو ما بنجأ ضابط شايل الطبنجة)    شاهد بالفيديو.. قائد الدعم السريع بولاية الجزيرة أبو عاقلة كيكل يكشف تفاصيل مقتل شقيقه على يد صديقه المقرب ويؤكد: (نعلن عفونا عن القاتل لوجه الله تعالى)    محمد الطيب كبور يكتب: السيد المريخ سلام !!    استهداف مطار مروي والفرقة19 توضح    حملات شعبية لمقاطعة السلع الغذائية في مصر.. هل تنجح في خفض الأسعار؟    محمد وداعة يكتب: المسيرات .. حرب دعائية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    ب 4 نقاط.. ريال مدريد يلامس اللقب 36    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أحمد السقا ينفي انفصاله عن زوجته مها الصغير: حياتنا مستقرة ولا يمكن ننفصل    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    أرنج عين الحسود أم التهور اللا محسوب؟؟؟    هل فشل مشروع السوباط..!؟    سوق العبيد الرقمية!    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من المحيط إلى الخليج .. بقلم: صديق عبد الباقي-الرياض
نشر في سودانيل يوم 27 - 02 - 2011

الغضب الشعبي الذي هبت رياحه من تونس و تجتاح الآن دولا أخرى في شمال أفريقيا و الشرق الأوسط غضب له أسباب و لثورته تداعيات تستعرضها هذه الورقة . ورغم أن لكل بلد خصوصياته التاريخية و السياسية و التي قد لا توفيها التعميمات حقها من الدراسة و التمحيص فهنالك عوامل مشتركة يمكن افتراض مساهمتها فيما يحدث إلى أن يثبت البحث العلمي المتأني خلاف ذلك. و ينطبق ذلك على التداعيات المتوقعة لثورة الغضب في كل بلد وفقا لظروفه.
أولا : الأسباب و القواسم المشتركة
1/ الانفتاح الاقتصادي بلا حشمة:
شهد الربع الأخير من القرن الماضي ازدهارا مضطردا لاقتصاد السوق و الفكر الاقتصادي و السياسي الليبرالي ، يؤرّخ لبدايته بالتاتشرية في بريطانيا و الريغانية في الولايات المتحدة و حلفائهم من قادة الأحزاب اليمينية في أوربا و اليابان. و قد تتوّج ذلك الازدهار بانهيار المعسكر الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي و أوربا الشرقية. و بدا العالم في العقد الأخير من القرن الماضي كما لو أنه استكمل أيمانه بإله واحد للمال و الأعمال و الرفاه هو النظام الرأسمالي الحر. و قد صاحب ذلك نمو تيار فكري ليبرالي يرى في انهيار المعسكر الاشتراكي بداية لتجسد اقتصاد السوق الحر كدليل ملموس على كمال الفكر الليبرالي الرأسمالي و خروج من بوابة التاريخ للأفكار والأنظمة الفاشية و الاشتراكية التي تجاوزها التاريخ و لأنظمة و حضارات أخرى تنتظر دورها للتخلف عن التاريخ و الخروج منه بما فيها الحضارة الإسلامية كما تبجّح بذلك الكاتب الدبلوماسي الأمريكي المثلي فرانسيسكو فوكوياما و بعض مفكري الهيجيلية المحدثين. و نسبة لتبعيتها الفكرية و الثقافية و تكالبها على نهج الحياة الغربي أو وقوعها تحت نير أنظمة سلطوية فقد انساقت دول العالم النامي أو سيقت وراء تيار اقتصاد السوق الحر الجارف. و تم توظيف سقوط المعسكر الاشتراكي توظيفا عقائديا لتسويق منتج اقتصاد السوق بحسبانه الطريق الأوحد للتنمية و الرفاهة . و رغم تباين ولاءات الأنظمة الحاكمة في بلدان شمال أفريقيا و الشرق الأوسط فقد شهدت دول مثل تونس و مصر و السودان و الجزائر و الأردن و اليمن نكوص الدولة عن دعم السلع و الخدمات الضرورية و التخلي عن الأصول المملوكة للشعب من مؤسسات و شركات و أراض و وحدات إنتاجية أو خدمية بيعت لقطاع خاص ليس هو القطاع الخاص الوطني الذي عرفته هذه الدول قبل الخصخصة. و قد اكتنف الخصخصة جدل واسع شكك في شفافيتها و نزاهتها و مسوغاتها و مردودها الاقتصادي.
و مثلما سيطرت طبقة الأغنياء الجدد على أموال الشعب و أصوله و أراضيه استطاعت أيضا أن تحوز لنفسها عقود الإنشاءات و الخدمات العامة بعد أن أصبح إسناد عقود الخدمات الحكومية طليقا من كل قيد سوى قيد الولاء أو السدانة أو المصلحة الذاتية المشتركة أو المزدوجة للموظف العام و المقاول الخاص و شركات( الكلتود ) ألتي تسحب من مال الخزائن العامة المحروسة بالوزراء إلى مال الخزائن الخاصة المملوكة للوزراء و آل بيوتهم.
و قد صادفت هذه السياسات نموا لقطاعات اقتصادية أوجدت بنود صرف جديدة كان لها اثر مباشر في امتصاص مدخرات البسطاء من الناس مثل قطاع الاتصالات حيث غدا ثمن الاسكراتش و اشتراك الانترنت خصما على وجبة تلاميذ المدارس و محتويات سفرة الغداء و مشتريات البقالة الضرورية من سكر و شاي و ملح و شطة و فول و رغيف. يضاف إلى ذلك انهيار قطاع اقتصاد القوت (subsistence economy ) و ضمور القطاعات الاقتصادية الإنتاجية ذات الاستقطاب الكثيف للقوى العاملة و تضخم القطاع الاقتصادي المالي من بنوك و صرافات و مؤسسات مالية و أسواق مالية و شركات تأمين و تطوير عقاري و غيرها من قطاعات عالية التقنية تقوم على التقشف في توظيف الناس و الاستعاضة عنهم بالأتمتة و الحوسبة . و معلوم أن القطاع الاقتصادي المالي مكرس بطبيعته لاستقطاب الودائع و السيولة النقدية من الأغنياء و الفقراء ليقدمها في شكل قروض و تسهيلات تستفيد منها في الاقتصاد المعافى القطاعات الاقتصادية الأخرى الإنتاجية و الخدمية و الصناعية. و أما في أنظمة الاقتصاد القائمة في تلك الدول فقد كان القطاع المالي هو نفسه المستفيد من التمويل ، حيث اشتغلت الحكومات و سدنتها في تمويل المشروعات المالية لتوليد المزيد من المال و تركت الزراعة و الصناعة و تجارة السلع و الخدمات تواجه ترد محتوم و ضمور مضن. ولأن خدمات هذا القطاع و عوائد استثماراته حكر على الأغنياء إذ ليس لمحدودي الدخل ما يشترون به الأسهم أو وثائق التأمين أو أنصبة الصناديق العقارية فقد ضاقت دائرة المستفيدين ، فزادت القلة غنى و انكشف حال الناس العاملين في القطاعات الإنتاجية ففقد البعض مصدر عيشه و تردت أجور من بقي في وظيفته ، و زادت أعداد العاطلين عن العمل و تدهور الوضع المعيشي للغالبية العظمى من السكان و تركزت الثروة في أيدي قلة و توسعت الهوة بين أغنياء جدد يملكون المزيد من المال و لا ينتجون شيئا و فقراء كثر لا يجدون إلا جهدهم يبذل بلا عائد .
و رغم تباين ولاءات دول المنطقة فقد باركت مؤسسات التمويل الدولية هذا الهرولة نحو اقتصاد السوق الحر و قدمت العون التقني و المالي للدول المعنية حتى ضحى الغد الذي سقط فيه زين العابدين بن علي و حسني مبارك أو الذي سيسقط فيه غيرهم لأنّه سقوط محسوب و مبرمج . فقد ظلّ البنك الدولي حليفا لمصر و أعلن في 25/5/2010 دعمه المستمر للإصلاحات في القطاع المالي الذي تقوم به الحكومة المصرية. كما دعم مشروعاتها للتحكم في إدارة منطقة الساحل في الاسكندرية و الطاقة لمنطقة شمال الجيزة و توليد الطاقة من الرياح و تحديث الري و السكك الحديدية. كما أكّد البنك الدولي في 17/5/2010 دعمه لخطط و مجهودات التنمية ألتي تنفذها دولة تونس و قدم الدعم لعدد من المشروعات من بينها تنمية قطاعي البيئة و المياه في 17/7/2010 و دعم التوظيف المموّل من أمريكا في 1/7/2010 . و ينطبق ذلك الدعم السخيّ على الأردن و الجزائر و اليمن أيضا. و قد كان السودان الأقل حظا في الحصول على دعم مالي مباشر من صناديق التمويل الدولية لأسباب سياسية. و لكن البنك الدولي كافأ حكومة السودان على ما قامت به اعتبارا من الأول من أكتوبر 1996من تنفيذ بيع القطاع العام و رفع الدعم الحكومي مما يسميه البنك الدولي برنامج الإصلاح الاقتصادي تحت إشرافه و إشراف الوكالة الدولية للتنمية. فقد دخل السودان بسبب هذا التنفيذ ضمن 29 دولة تستحق المعونة لدرء أعباء الدين الخارجي. و رغم كل ما حدث للقطاع العام و سياسات دعم القوت و العلاج في دول المنطقة فقد ظل البنك الدولي يحرض دول المنطقة حتى 9/11/2009 على المزيد من الإجراءت لإزالة امتيازات القطاع العام و تكريس المنافسة الحرة باعتبار أنه ليس من سبيل لخلق الوظائف إلا بتقوية القطاع الخاص. هذا على الرغم من إقرار البنك الدولي في نفس التاريخ بأنّ ( الإصلاحات التي تمت في العقدين الماضيين جعلت من القطاع الخاص في تلك الدول المصدر الأول للثراء و الثروة). و بالنسبة للسودان فإنّ البنك الدولي ما زال في تقريره عن السودان في 10/6/2010 يرى أن هيمنة القطاع العام تهدد التنمية و يوصي الحكومة بتوسيع مشاركة القطاع الخاص و تحسين مناخ الاستثمار.
و تكريس اقتصاد السوق إضافة إلى كونه ذا مردود ايجابي لدول أوربا و أمريكا و اليابان على المدى القصير فهو يمثّل على المدى الطويل سلاحا استراتيجيا لا تتهاون دول الغرب الرأسمالي و مؤسسات التمويل في الحشد له و فرضه إن دعا الحال بحكم الضرورة و الحصار الاقتصادي في حال بعض دول العالم الأقل نموا التي ترفضه. و عندما تدعم دول الغرب حاكما سلطويا مثل من سقطوا فإنها تستفيد على المدى القصير من قراراته و مواقفة الإرادية كحليف يفعل ما تأمره به ثم تستفيد بعد انقضاء صلاحيته من التداعيات اللاإرادية التي ترتبت بفعل سياساته على المجتمع و السياسة فقربتهما قاب قوسين أو أدنى من أنماط الاستهلاك و السلوكيات و الأفكار الليبرالية. وعقلاء السياسة و منظروها في الولايات المتحدة و حليفاتها بعد انتهاء الحرب الباردة عدلوا عن استراتيجية الدعم السابق المفتوح المفضوح بالقوّة الغاشمة للأنظمة السلطوية اليمينية التي تخدم مصالحهم و اصبحت هنالك منذ سقوط المعسكر الاشتراكي إستراتيجية طويلة المدى تقوم على التدخل الاقتصادي ليفعل السوق بعد ذلك فعله في مجتمعات الجنوب مع وجود حدود و مرعيات ينبغي على الأنظمة الموالية مراقبتها.
2/ أنظمة من وراء التاريخ
لعلكم تذكرون أسماء معاصري حكامنا من رؤساء و رؤساء وزارات و دول و معسكرات ما عادت الأجيال الحديثة تذكرها لبعد العهد. و ما زال الوقت حسب التوقيت المحلّي القرن العشرين . و الاتحاد السوفيتي و رونالد ريجان و ألمانيا الشرقية وحكم الأبارثايد العنصري في جنوب أفريقيا كلها موجودة و قائمة. و لم يتم بعد ترخيص الانترنت للاستعمال المدني و ما زال نلسون مانديلا في غياهب السجن و أرتريا مقاطعة من مقاطعات أثيوبيا و دول مثل أوكرانيا و جورجيا و أرمنيا و أذربيجان و تركمانستان و غيرها لم تولد بعد. و رغم شيخوخة الأنظمة و تكلسها فإنّ الجماعات الحاكمة في تلك الدول لم تتأخر في اقتناء آخر ما تفتق به ذهن الخواجة من منتجات في مجال المركوب و الملبوس و المحمول و المصنوع لا حبا في نقل التكنولوجيا لمصلحة شعوبهم و لكن رغبة في تسويق تلك المنتجات لمواطنيها و سلب مدخراتهم القليلة أصلا و مضاعفة فرص الثراء الشخصي و اقتسام أنفال الحرب على القطاع العام بعد ما سبقت تلك الدول إلى خصخصة قطاع الاتصالات و المواصلات و التجارة و المال. و لأنّ اقتصاد السوق لا يعرف سوى الربح غاية فما يلبث النظام الحاكم بأمر السوق أن يقع تحت سيطرة السوق و مافيا السوق و بطانة السوء حتى يكب على وجهه و هو من غفلة لا يدري. و ليس غريبا أن يكون قطاع الاتصالات أكثر القطاعات نموا و توسعا و ربحا الذي ظلت تتبارى دول المنطقة في تطويره و نشره هو نفسه القطاع الذي يتيح الانترنت و الفيسبوك و التويتر و يمهّد لثورة الشباب و يعجّل بسقوط حسني مبارك و زين العابدين بن علي و غيرهما.
3 : الانغلاق السياسي و تحجيب الحريات
يقوم اقتصاد السوق في دول المهد على عمد من الحريات الاقتصادية و السياسية . و تعتبر الحقوق المدنية و الحريات السياسية ألتي تتمتع بها المجتمعات الغربية هي المتنفس الذي يحفظ استقرار نظام الاقتصاد الحر و يتيح فرص المساومة الجماعية و معالجة المظالم أولا بأول فيما بين أطراف العلاقات الاقتصادية. و من الحماقة فرض اقتصاد السوق بإطلاق حريات بعض أطراف علاقاته ( الدولة، المنتجين ، أصحاب الأعمال ، ملاك الأراضي؛ التجار و تنظيماتهم ..إلخ) و تكميم حريات أطرافها الأخرى ( المواطنين ، المستهلكين ، العمال ، الفلاحين ، العملاء و النقابات و منظمات المجتمع المدني و أحزابهم السياسية). و يشبه ذلك الوضع حال مرجل مملوء بالماء و محكم الإغلاق فوق نار مضرمة ، لن يلبث أن ينفجر بما فيه. و يراهن فقهاء الاقتصاد السياسي على التحول الديمقراطي العلماني في دول شمال أفريقيا و الشرق الأوسط مهما تمنّعت و استنكفت و تعنّتت و استبدت أنظمتها الحاكمة. و يمكن لمثل هذه الأنظمة المختلة أن تستمر على المدى القصير بضمانات طالما أدمنتها الأنظمة السلطوية في كل زمان و مكان حتى أفقدتها القدرة على تطوير أي مناعة طبيعية كان يمكن أن تكتسبها بالتصالح مع مجتعماتها المدنية. و قد ملّت المجتمعات العربية مثل تلك الضمانات المشروخة مثل تدجين الجيش و الأجهزة الأمنية و الاستعانة بالمنظمات الطلابية و الشبابية و اغداق الأموال و الامتيازات علي قياداتها و ربطها جميعا بدوائر النظام الاقتصادية و المالية حتى تكفر بالوطن أو تعبد النظام الحاكم ليقربها إليه زلفى . يضاف إلى ذلك تفكيك عرى الولاءات الموروثة و الاستعانة على قيادات المجتمع المدني التاريخية غير الموالية في الحضر و الأرياف بقيادات و زعامات مصنوعة يتم شراء ولاءها و حشدها في تنظيم حزبي فوقي مصنوع عادة ما ينتهي اسمه بالوطني مثل حزب زين العابدين و حسنى مبارك و غيرهما.
و رهان فقهاء السياسة و الاقتصاد المشار إليه يقوم على اعتقاد جازم و ثابت و مجرّب بقدرة اقتصاد السوق على تفريخ قيمه و سلوكياته و اخلاقياته و استنساخ مواعينه السياسية التي تناسبه. و هذه قناعة و عقيدة يتقاسمها آدم سميث و هيجل و كارل ماركس و ماكس فيبر و مستشاري أوباما في البيت الأبيض رغم مابين هؤلاء و أولئك مما صنع الحدادون. كما أنها قناعة يشهد لها الانهيار في دولنا الحاصل في القيم الأخلاقية المجتمعية الموروثة و بوار الثقافة الوطنية و فقدان المجتمع و رموزه الدينية و الثقافية القدرة على توجيه سلوك الشباب و الانسياق المتزايد وراء ثقافة كونية أصبحت في متناول الجميع بفضل الثورة المعلوماتية.
4/ إقصاء الآخر
و في سبيل تكريس سلطانها لم تتورع الأنظمة الحاكمة في بعض دول المنطقة من تهجير المعارضين. و زاد خلال العقدين الماضيين أفراد الجاليات العربية في المهجر كما تمّ تأسيس جاليات جديدة في المهجر لقوميات ذاقت مرارة الهجرة و الشتات لأول مرة خلال تلك الفترة. و قد خفف من قسوة التهجير الملاذات البديلة التي ظلّت دول مجلس التعاون تقدمها لنفر من هؤلاء الذين سدّت عليهم أبواب الرزق في أوطانهم. و أصبحت إسرائيل لأول مرة وجهة للمهاجرين من بعض الدول العربية و الإسلامية. و مما لا شك فيه أن وجود تلك الأعداد الكبيرة من المهجرين قد أتاح لبعض هؤلاء خاصة في أوربا و العالم الجديد مجالا للعمل السياسي المناهض لحكومات بلادهم، و أصبحوا قوة يستطيع من يرغب في التدخل في شئون بلادهم أن يتذرع بوجودها على أرضه أو يستغل وضعها لتكون واجهة التدخل الأجنبي في البلاد التي نبذتهم. و قد رأينا الأعداد الكبيرة من التونسيين من أتباع حركة النهضة الإسلامية أو غيرها من أحزاب المعارضة يعودون إلى بلادهم فور سقوط النظام. كما أمكن للشيخ يوسف القرضاوي و غيره من الإسلاميين المصريين أن يدخلوا مصر آمنين لأول مرة منذ ثلاثين عاما بعدما سبقتهم إليها السفارة الإسرائيلية.
5 / طغيان قطاع المال و الآثار الاجتماعية و السياسية للأزمة المالية.
يشهد العالم منذ بداية 2008 أزمة مالية أطاحت بالعديد من المؤسسات المالية في أمريكا و أوربا و العالم ما زالت أعراضها ماثلة حتى اليوم. و قد سبق أن كتبت مقالا في هذه الصحيفة عن الأزمة المالية في وقت كانت آثارها المباشرة على البنوك و المؤسسات المالية ماثلة للعيان. و منذ ذلك الوقت استشرت الأزمة في أوصال اقتصاديات دول العالم و بدأت تظهر للعيان آثارها الاجتماعية و السياسية كما طالعنا ذلك من خلال شاشات البث التلفزيوني من اليونان و بريطانيا و فرنسا و أسبانيا و البرتغال و بوليفيا و غيرها. و قد قامت بعض الدول و المؤسسات الخاصة في شمال أفريقيا و الشرق الأوسط بفرض إجراءات تقشفية لمحاصرة آثار الأزمة. و قد شملت تلك الإجراءات زيادة أسعار المحروقات و رفع الدعم عن الخبز و السلع الاستهلاكية الأولية و الاستغناء عن العمالة و تجميد التوظيف و الاستخدام . و قد استفادت من هذه الإجراءات البنوك و المؤسسات المالية و عملاؤها الكبار و تضرر منها أفراد الطبقة الوسطى و محدودو الدخل. و قد جاءت الأزمة المالية و ما تبعها من آثار في وقت تباعدت فيه فوارق الدخل بين أغنياء يملكون المال و لا ينتجون شيئا و فقراء لا يجدون إلا جهدهم يبذل بلا عائد مجز . و قد كان هذا التباعد واحدا من منتجات هيمنة قطاع المال و انتفاخه ثم ظل يتفاقم حتى بعد انفجار البالون المتضخم . و هكذا فقد كان ازدهار قطاع المال إفقارا للبسطاء كما يستمر انهياره حربا على لقمة عيشهم. و لا يمكن بحال من الأحوال براءة الأزمة المالية من دماء من سقطوا من المستضعفين أو معهم في شوارع تونس و القاهرة و غيرها من قرى الحكام الظالمين كما لا يمكن براءة ذمة هؤلاء الظالمين من تلك الدماء و من التعدي على حقوق شعوبهم بالاختلاس و السرقة و الاستنزاف المخطط.
6/ انحسار الحس الوطني و هيمنة الأنا و الأسرة و القبيلة
لقد استطاع حسني مبارك إبان سني حكمه أن يقصي مصر عن دورها العربي و الإسلامي و الإقليمي و يحولها إلى ذلول تدمن المعونة الأمريكية لا تثير الأرض و لا تسقي الحرث تبادر بحصار أهل غزة و تنفث الغازات السامة في الأنفاق التي لم يبق لأهل غزّة غيرها للحصول على الغذاء و الدواء ، وتمد الإسرائيليين بالغاز الطبيعي بأسعار تقل عما يشتريه به المصريون و تفتح للسلع الإسرائيلية سوقا بإضافة مكوّن مصري و عبارة صنع في مصر. و بعدما بذل ما بذل لم يستح النظام من استغلال هذا الوضع الاستراتيجي المشين الذي صنعه لمصر ليشيع الخوف في نفوس الأمريكيين و حلفائهم بأن استمرار معاهدات كامب ديفيد و الوضع الراهن في الشرق الأوسط كله رهين باستمراره في السلطة ، و أن الحرب على الإرهاب ستنقلب حربا للإرهاب إذا أصبح حسنى مبارك في ذمة التاريخ. لقد ابتذل نظامه في البذل لإسرائيل لإرضاء الولايات المتحدة و شراء، سكوتها على ممارسات النظام القمعية و أساليبه الفاسدة و، مباركتها للحرب على الإخوان المسلمين و غيرهم من جماعات لا ترضى عنها أمريكا. و قد استغل حسني مبارك هذا الرضاء الأمريكي و القبول الدولي ، ليس لخدمة أهداف مصر الإستراتيجية، أو دعم موقفها التفاوضي أو مركزها الدولي أو ضمان مصادر مياه النيل عصب حياتها أو حصولها على مقعد دائم في مجلس الأمن بل استغله لتكون مصر له و لأبنائه و آل بيته و الفاسدين من بطانته و حاشيته . و بقدر ما أغدقت عليه أمريكا بالمعونة و القروض بقدر ما عجّلت حتفه.
و لا يظنّن أحد أنّ أمريكا و إسرائيل فوجئتا بسقوط حسني مبارك. فمن المعلوم أن إسرائيل و الولايات المتحدة كانتا و ما زالتا من حيث التخطيط الاستراتيجي لا تعولان كثيرا على السلام القائم بين مصر و إسرائيل لعلمها أنه يقوم عل اتفاقيات أبرمتها و تحرسها أنظمة سلطوية لا تمثّل الشعب المصري و لا يطمئن لديمومتها قلب. و معلوم أن إسرائيل لم توقف لا قبل كامب ديفيد و لا بعده تخطيطها الاستراتيجي طويل المدى لتوطيد قدمها في الشرف الأوسط و أفريقيا ، و أن أمريكا ما فتئت منذ بوش و كونداليزا رايس تخطط لإعادة ترسيم حدود الشرق الأوسط و أفريقيا بما يحفظ مصالح أمريكا و ربيبتها إسرائيل. و رغم أن استمرار الدور الذي كان يقوم به حسني مبارك مهم لإسرائيل لأنه يخدم مصالحها حتى على المدى القصير فإن غياب مبارك ليس بالخطورة التي كان سيكون بها قبل عقد من الزمان حين لم يتم لإسرائيل استكمال سد النيل الأزرق في أثيوبيا و شروعها الآن في تمويل قيام سد على منابع النيل الأبيض في يوغندا بمباركة دولة جنوب السودان المنتظرة لتكون إسرائيل هي المتحكمة في مياه النيل عصب حياة مصر.
و ما فعله حسني مبارك في مصر احتذى به زين العابدين بن علي في تونس و يحتذي به آخرون سرا أو جهرا.
7/ الإسلاميون و غيرهم
ذهب كتاب إلى أن ما تشهده دول المنطقة صحوة إسلامية ، و انقلاب شعبي على الأنظمة العلمانية الموالية لأمريكا و الغرب و المتصالحة مع إسرائيل. و يسوقون للتدليل على ذلك أن الإسلاميين من أكبر الجماعات السياسية التي شاركت في ثورة تونس و مصر و تشارك الآن في تحريك الشارع في الجزائر و ليبيا و دول أخرى. و لا ينكر أحد مشاركة الإسلاميين المعارضين فيما حدث و قد يحدث من انتفاضة تعم دول المنطقة. و لكن ذلك لا ينهض دليلا على صحوة إسلامية. و قد يعني ببساطة إمكانية أن الثورات الحاصلة الآن إذا لم تقود إلى تغيير ديمقراطي فقد ينتهي بها المآل إلى أنظمة سلطوية أو شمولية تتوسل الدين للوصول إلى كراسي الحكم و الخلود فيه . و معلوم أن شعوب المنطقة قد نالت حصتها من الحكم الشمولي المتوسل بالشيوعية و الاشتراكية و القومية العربية و الدولة الوطنية و لم تبق من عقيدة يتوسل بها إلى السيطرة على شعوب تلك الدول غير الدين . هذا باستثناء السودان الذي استنفد كل شيء. فمصر ظلت تحت الحكم السلطوي منذ 1953 متقلبة بين القومية العربية و الاشتراكية و الدولة الوطنية حتى تاريخ انهيار نظام الحكم السلطوي تحت جحافل ثمورة 25 يناير 2011. و ينطبق ذلك على تونس و اليمن و سوريا و ليبيا و عراق ما قبل الغزو الأمريكي. و التوسل بالدين للحكم و التمكين سلوك سياسي قد يكون بحسن نية إذا كان المتوسّل يرمي لتمكين الدين ، و قد يقترف بسوء قصد إذا كان بنية التمكين الدنيوي . و هو في الحالة الأخيرة سلوك انتهازي مشين لأنّ المتوسل يخدع شعبه و يخادع ربّه و يشتري بعهد الله و أيمانه ثمنا قليلا فيبيع دينه بدنياه. و كما أودت الشمولية بالقومية العربية و الاشتراكية حين اتخذتهما الدولة ذرائع للتسلط و القهر و تكميم الأفواه و الفساد و الإفساد و نفرت عنهما الناس فإنّ الإسلام قد يحتاج إلى من ينقذه من الإسلاميين إذا غدا بأيديهم مجرّد ايديولوجيا للتمكين الدنيوي شأنه شأن القنوات الفضائية و التوجيه المعنوي و التجريف الاجتماعي و الزكاة و الصلات و النفقة و الصدقة الانتقائية. و يمكن أن يكون ذلك أيضا مآل من يستولي على الحكم متوسلا بالدين بحسن نية. و رغم أن الدافع ليل الاستيلاء على السلطة لدى البعض قد يكون الإيمان الصادق بعقيدة ما ، فإن السلطة تبدو لمن ذاقها و تمكّن فيها غاية في حد ذاتها و لا يمكن أن تكون وسيلة لتمكين عقيدة سماوية أو أرضية . و إن ظل متقلدوا السلطة يرددون شعارات العقيدة التي حملتهم للسلطة فإن التباين الفاضح بين المثال و المآل لا يمكن أن يخفى على عين بصير. و الإنسان بطبعه ظلوم جهول لا يملك فكاكا من نزعته الغريزية للحياة و التسلط و السطوة و الاستقواء. و قد فهمت ذلك شعوب الأرض و وعته و لم تعد تقبل بغير الديمقراطية بديلا لحكم الناس بالعدل، لأن الديمقراطية تقوم على أساس المساواة أمام القانون و سيادة حكم القانون و المحاسبة المكشوفة التي تتولاها مؤسسات الحكم الديمقراطي من قضاء مستقل و برلمان منتخب و سلطة تنفيذية خاضعة للمحاسبة. و جاهل من يصدق حاكما فردا أو حزبا أوحدا يعد الشعب بالمن و السلوى في الدنيا أو بإقامة شرع الله أو حكم الاشتراكية لأن وعود الحكام المتسلطين لا تعدو كونها حبائل منصوبة لاصطياد التأييد و التمكين في الأرض.
و تبدو المفارقة واضحة في فكر الإسلاميين المحدثين. فهم بأقوالهم يدعون إلى إقامة دولة إسلامية و بأفعالهم ينتمون إلى حزب اقتصاد السوق و يطبقون وصفات صناديق التمويل الدولية بحذافيرها . و التجارة غارة المسلم على المسلم ، و السوق يستنسخ المعاملات و القيم و الأخلاق العلمانية و لا يدين بغير الربح و إن لم يكن عن تجارة أو تراض، و لا يرضى الخسارة و إن كانت ثمنا للإصلاح الاجتماعي و الزكاة و النفقة و دعم السلع الضرورية و حماية الفئات المستضعفة من الفقر و الانزلاق في ملاجئه . و اعتلاء الإسلاميين أو غيرهم السلطة بالانتخاب أو الانقلاب لم و لن يغيّر الحال الاجتماعي و السياسي المحتقن إن لم يكن هنالك حكم ديمقراطي و تخطيط اقتصادي سليم يعطي الأولوية لتنمية للموارد البشرية من حيث التعليم و التدريب و التشغيل و الضمان الاجتماعي و الصحيّ و الخدمات العامة و الاستثمار الموجّه في القطاعات الإنتاجية ، الصناعية و الزراعية.
و الإسلاميون في سدة الحكم ليسوا معصومين من الثورة عليهم بذات نهج الثورة في مصر و تونس و غيرها بسبب القواسم المشتركة بين دول المنطقة كما تم توضيحه أعلاه.
ثانيا : التداعيات و الدروس المستفادة
1/ تغيير عرضي أم ديمقراطية مستدامة؟؟
لقد سبق السودان غيره من دول شمال أفريقيا و الشرق الأوسط إلى الثورة الشعبية على الأنظمة العسكرية و اسقط نظامي عبود في سنة 1964 و النميري سنة 1985. و قد رأينا في حال السودان أنّ الانتفاضة الشعبية و إسقاط النظام السلطوي لم تمنع من تكرار أزمة الحكم و استيلاء الجيش على السلطة بالانقلاب على الحكومتين المنتخبتين في 1969و 1989. و قد كان السودان بسبب الانقلاب الأخير الدولة الوحيدة التي دخلت العقد الأخير من القرن الماضي بانقلاب يتيم بعدما انهار معسكر الاشتراكية و معه نظام الحرب الباردة و ما كان يوفره من رعاية أبويّة و تأييد سافر بالقوة الغاشمة للأنظمة السلطوية الموالية لليمين أو اليسار بحسابات ليس من بينها مصلحة الشعوب المغلوبة على أمرها. و بسبب ذلك فقد تكالبت على النظام روسيا و الولايات المتحدة و حلفاؤها و لم تفلح الصين في اتخاذ موقف مختلف على الرغم من مصالحها في السودان. و قد كانت هذه الحملة الدولية على النظام ليس بسبب توجهه الإسلامي كما يصوّر هو ذلك بل لأسباب أخرى من بينها أنه قد جاء في التوقيت التاريخي الخطأ بعدما أغلقت دور الرعاية التي كانت توفرها الحرب الباردة للأنظمة الجانحة. و يثور السؤال هل مايحدث الآن من المحيط إلى الخليج تغيير عرضي و حلقة من حلقات التناوب الاحترابي للسلطة ؟ أم ثورة نوعية تضع لبنات حكم ديمقراطي مستدام ؟
و تعتبر مصر حالة خاصة من بين كل دول المنطقة. فهي الدولة الأقدم على وجه الأرض . و قد ظل سلطان الدولة في مصر مبسوطا لمئات السنين. و قد أكسب هذا القدم و التجذّر الدولة المصرية وجودا مستقلاّ عن الحكومة المركزية و لم تعد الدولة تدور وجودا و عدما بوجود حكومة مركزية من اليمين أو اليسار أو الجيش. و قد كانت ثورة الخامس و العشرين من يناير هي المرة الأولى التي يخلع فيها الشعب المصري الأعزل حاكما منذ ما يزيد على ألف سنة. و نظام حسني مبارك هو حفيد نظام الحكم السلطوي الذي أسسته ثورة 23 يوليو في مصر. و رغم تبدّل الحكام فقد ظل ذلك النظام هو البنية الأساسية التي تقوم عليها الحكومة المصرية. فقد ظلت حريات التنظيم النقابي و العمل النقابي في مصر تمارس ضمن أطر وضعتها الحكومة . هذا إلى درجة أنه لا يمكن أن توجد نقابة في مصر إلاّ إذا صدر بتأسيسها قانون مستقل و لا يمكن أن تمارس نشاطا إلا وفقا لأحاكم قانون إنشائها. و ما تنصّ عليه معاهدات منظمة العمل الدولية و العهود الدولية لحقوق الإنسان من حق العمال في تكوين النقابات وفق الأسس التي يختارونها دون حاجة لإذن مسبق من السلطة التنفيذية لا وجود له في مصر. كما أن الأحزاب السياسية تدرج أمرها من الحظر الكلّي إبان سطوة الاتحاد الاشتراكي العربي إلى المنابر تحت مظلة الحزب الواحد ثم الأحزاب ربيبة حزب الدولة. هذا باستثناء جماعة الأخوان المسلمين التي ظلّ نشاطها محظورا منذ 1953 و حتى تاريخ الخامس و العشرين من يناير 2011. كما ظلت مصر محكومة بالطوارئ منذ عام 1939 باستثناء مدد متفرقة تبلغ في مجموعها ثمان سنوات. و قد ظلت حالة الطوارئ المفروضة بعد النكسة في سنة 1967 مستمرة حتى ألغاها الرئيس الأسبق أنور السادات في النصف الأول من سنة 1980 ليتم فرضها في النصف الأخير من نفس السنة عقب اغتياله لتستمر طوال سني حكم حسني مبارك و حتى اليوم حيث ما زال قانون الطوارئ رقم 162/ 1958 نافذا فاعلا.
و من جانب آخر فأنّ ذلك القدم و التجذّر التاريخي المشار إليه أعلاه يحول دون راديكالية أي تغيير سياسي بما في ذلك التغيير الذي حققته ثورة 25/1/2011. و من ثم فلا يتوقع أن يتغير النظام الاقتصادي الاجتماعي الذي ألفته مصر منذ السادات . و أمّا بالنسبة للنظام السياسي فمن الممكن أن يكتمل الانتقال إلى حكم ديمقراطي يقوم على التعددية. و لا يعتبر الانتقال للتعددية نهاية المطاف. بل ستطالب المنظمات المهنية و العمالية و منظمات المجتمع المدني بفتح الباب لإعادة النظر في القوانين و الأنظمة و المؤسسات الموروثة منذ عهود لتكون معبرة عن إرادتها الحرّة . و قد تتدخل عوامل خارجية فتؤثّر على نجاح الحكم الديمقراطي أو فشله في مصر و ذلك لما لمصر من ارتباط مصيري باتفاقيات كامب ديفيد و الوضع الراهن في الشرق الأوسط، و تلك اتفاقيات و أوضاع كرّستها أنظمة سلطوية هي الأقدر على حمايتها لأنها لا تلاقي قبولا لدى الشعب المصري .
و بالنسبة لتونس فإن نظام زين العابدين بن علي كان امتدادا طبيعيا لنظام خلفه الحبيب بورقيبة. و قد جربت تونس الحكم السلطوي لأكثر من ستين عاما مماّ قد يعضد انتقالها لحكم ديمقراطي. و تبدو تونس أكثر قابلية لاستيعاب نظام ديمقراطي تعددي.
2/ قوة الجماهير و السلاح
كشفت الأحداث أنّه من الممكن بالتظاهر السلميّ إسقاط أي نظام سلطويّ مهما بلغ بطشه طالما صمّم الشعب على الصمود لأيام و ليال. و قد أثبتت المظاهرات السلمية لسكان المراكز الحضرية القريبين من كراسي الحكم أن مظاهراتهم السلمية أمضى سلاحا من العتاد الحربي و أنها استطاعت أن تحقق في ثلاث أسابيع ما عجزت عن تحقيقه حركات مسلحة ظلت تقاتل لأكثر من ثلاثة عقود. كما كشفت الأحداث أن للنقابات و الاتحادات العماليّة دورا مهما في تعضيد التظاهر بالضربة القاضية عن طريق الإضراب و العصيان المدني. و بسبب الدور السياسي التاريخي الذي لعبته النقابات في السودان على سبيل المثال فقد نالها الحظ الأوفر من التعدّي على الحريات بما في ذلك حقها في اختيار أساس التنظيم النقابي الذي يناسبها دون حاجة للإذن المسبق من السلطة. و قد سعت الأنظمة العسكرية في السودان إلى التعديل القسري لأساس التنظيم النقابي و سعت دون جدوى لتكريس المنشأة كأساس للتنظيم النقابي ظنّا منها أن ذلك كفيل بإبعادها عن السياسة و التحالفات مع الأحزاب السياسية. هذا بالإضافة إلى سعي الأنظمة العسكرية إلى خلق اتحاد عمالي سلطوي يتمتع رؤساؤه بالمخصصات الوزارية و ينوب عن الدولة في فرض الرقابة البوليسية على النقابات الملحقة به قسرا.
3/ دور الجيش و الأمن.
لم يفهم الكثيرون تلك الحميمية و الثقة المفرطة التي أولاها الشعب التونسي و المصري لقواتهم المسلحة و دعوتهم الصريحة للجيش للاستيلاء على السلطة. و قد هال الكثيرين ذلك التباين الفاضح بين الموقف الشعبي من الشرطة و الأجهزة الأمنية من جانب و موقفها من الجيش من الجانب الآخر. و تقف التجربتان التونسية و المصرية على الضرر الماحق الذي تحيقه الأنظمة السلطوية بمؤسسات الشرطة و الأمن فتحيلها من مؤسسات غايتها حفظ أمن المواطنين و سلامتهم إلى مراكز لحماية النظام الحاكم بكل الوسائل بما في ذلك إسناد جزءا من المهام القذرة إلى البلطجية و المرتزقة و التنكيل و القتل و السحل و الاغتصاب و ترويع المدنيين .
و بالنسبة للجيش فقد دلّت تجربة تونس و مصر على أهمية الجيش النظامي التقليدي كملاذ أخير للحفاظ على أمن و سلامة الوطن و المواطنين و السيطرة على الأجهزة الأمنية و الشرطية المنفلتة. و يبدو ما هو آت أكثر قتامة في تلك الدول التي قامت فيها الأنظمة السلطوية بتصفية المؤسسة العسكرية التقليدية و الاستعاضة عنها بجيش غير تقليدي أو حرس ثوري أو مليشيات حزبية. و ما حدث في ليبيا يمكن أن يتكرر في بلدان أخرى فينقسم الجيش بين الولاء للشعب و الولاء للحاكم أو ينحاز للحاكم. و قد يؤدّي ذلك إلى سفك الدماء و الحروب الأهلية و تفكك الدولة الوطنية على أساس عرقي أو قبلي و التدخل الدولي المباشر في الشأن الوطني. و تقع مسئولية تاريخية كبيرة على مؤسسة الجيش في جميع الدول المعنية لإثبات قوميتها و تنزهها عن الولاء السياسي الأعمى و وعيها بدورها كملاذ أخير للدفاع عن الوطن و المواطنين في كل زمان و مكان.
4 / الواقع الدولي الجديد
يشهد العالم وضعا جديدا بسبب الترابط الاقتصادي المتزايد بين دول الشمال و الجنوب . فقد استنفدت القارة العجوز أرضها و سماءها و لم تعد من موارد أو أسواق أوربية تكفيها مذلة الاعتماد على الموارد و الأسواق الخارجية التي توفرها دول الجنوب. كما عصفت الأزمة المالية بالولايات المتحدة و لم تعد ذلك السوق السلعي و المالي الذي كان. و قد أصبح العالم جسم اقتصادي يتداعى جذعه في أوربا و أمريكا إذا ما أصاب دولة من دول الجنوب جائحة من غضب شعبي أو انقلاب عسكري أو أزمة حكم. و قد أصبح العالم قاب قوسين أو أدنى من استعمار جديد يعيد ترتيب العالم بما يحفظ استقرار و أمن الدول المهيمنة. و إلى ذلك الحين فقد لا يسمح العالم لدكتاتور صغير في واحدة من جمهوريات الموز أن يعيث فسادا في الأسواق المالية العالمية أو يتسبب في قطع إمدادات النفط أو خطوط النقل الجوي و البحري و الأثيري . و من جانب آخر فقد شهد العقد الأول من القرن الحالي تطورات في القانون الدولي الخاص و العام جاءت جميعها تقنينا لهذا الواقع الجديد. فقد أصبحت الدول الأوربية أكثر استعدادا لحمل بنوكها على كشف و تجميد الأموال المنهوبة من شعوب الجنوب. و أصبح فتح و تشغيل الحسابات المصرفية بالأموال المتحصل عليها بالرشوة أو الاختلاس أو استغلال المنصب من جرائم تبييض الأموال وفقا للقانون الدولي . كما لم تعد السيادة الوطنية أو حصانة رأس الدولة مانعة من التدخل الدولي في الشئون الداخلية الخاصة بدولة ما و اجتياحها عسكريا إن دعا الحال. و رغم أن التدخل الخارجي بجميع أشكاله يتذرع بحقوق الإنسان و حماية حقوق المدنيين و يعتبر من منظور البعض نصرا كبيرا لدعاة حقوق الإنسان فإنّ الرغبة الصادقة في حماية حقوق إنسان الجنوب لم تكن هي الدافع الحقيقي وراء هذه التعديلات بل قد يكون إنسان الجنوب مستفيدا عرضيا منها ( Collateral beneficiary ) كما كان مدنيو العراق هدفا عرضيا للانقضاض على صدام حسين . و يجب ألاّ ننسى في غمرة الغضب على القذافي أن عالم أوربا و أمربكا لا تحركه للتدخل في شئون الدول الأخرى إلاّ مصالحه و أنه لا مكان في السياسة الدولية للدوافع الإنسانية الصادقة و إلاّ لكان أهل غزّة أولى بالمناصرة من غيرهم إبان حملة الإبادة التي شنتها عليهم إسرائيل بطائرات أمريكية الصنع.
صديق عبد الباقي
الرياض – السعودية
[email protected]
00966507777516


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.