الأزمة الاقتصادية الخانقة التى يعيشها الوطن هذه الأيام هى امتداد طبيعى لأزماتنا السياسية، لذا فإن الحل واجتياز هذه المحنة يتطلب ما هو أكبر من الجراحات الاقتصادية القاسية التى شرعت الحكومة فى تنفيذها.. والأمر فى تقديرى يتطلب معالجة سياسية شاملة من المفترض أن تتوافق عليها الحكومة والمعارضة وكافة القوى السياسية فى البلاد. إن الأوضاع المحتقنة الحالية تجعل الكل يفزع من المآلات والتداعيات التى يمكن أن ينتهى إليها الوطن، وهى مآلات تهدد بتفكك السودان وتمزق النسيج الوطنى، ومن ثم تعلو الجهوية والقبلية ليصبح هذا الوطن العزيز صومالاً جديداً في المنطقة المضطربة التي نعيش فيها، وهذا مصير مفزع لا أعتقد أن أهل الحكم أو أهل المعارضة يرغبون فيه، لأنهم ببساطة لن يجدوا في هذه الحالة وطناً يتنازعون على حكمه. إن الإجراءات الاقتصادية الأخيرة لم تأتِ بسبب العجز المالى فحسب، ولكنها نتاج طبيعى لاحتياجات أمنية للوفاء بمتطلبات التأهب الأمنى المطلوب ومواجهة الاعتداءات على السيادة الوطنية وردع القوى المتمردة، وهذا الواقع يجب أن يقود القوى السياسية حاكمة ومعارضة باتجاه إطفاء هذه الحروب التي تلتهم موارد البلاد وتحيل حياة المواطن إلى عذاب ومعاناة شاقة. إن هذا التوافق الوطنى الذى ندعو له ينبغى أن يسبقه تمهيد فى المسرح السياسى يسعى إلى خلق مناخ تصالحى، وفى تقديرى أن هذا التمهيد يقع بشكل أساسى على عاتق السلطة التنفيذية والحزب الحاكم. ولعل هذا ما ذهب إليه النائب الأول لرئيس الجمهورية عندما أكد وهو يخاطب البرلمان، ضرورة مراجعة كافة السياسات السابقة وتقويم الأخطاء التى صاحبتها، فمثل هذه المراجعة باتت اليوم ضرورة قصوى واحتياجاً لا يمكن تجاهله، لأنه ببساطة لا يمكن تقديم وصفة طبية للعلاج دون تشخيص الداء. إن من أكبر أخطاء حكومات الإنقاذ المتعاقبة خلال السنوات الماضية على الصعيد الاقتصادى، أنها اعتمدت سياسات التجريب فى هذا المجال الحيوي الذى لا يحتمل التجريب أو المغامرة، فالسياسات الاقتصادية طوال هذه السنوات ظلت محكومة بالمزاج السياسى والاقتصادى للوزير المختص، وليت الإنقاذ ثبتت على نهجها الأول خلال سنواتها الأولى بدعوة المختصين وأهل الكفاءة والخبرة دون النظر الى ميولهم وأهوائهم السياسية من خلال مؤتمرات الحوار الوطنى، ومن بينها مؤتمر الحوار الاقتصادى. فهذا النهج الإيجابى سرعان ما تبدد وطويت ملفاته وأصبحت النظرة الحزبية الضيقة هى المعيار الأوحد، مما حرم الوطن من رؤى وطنية صائبة كان يمكن أن تسهم فى تجنب الوضع الاقتصادى الخانق الذى نعيشه اليوم. لقد ظلت السياسات الاقتصادية محكومة باجتهادات متواضعة وسالبة يتطوع بها بعض الوزراء المختصين فى القطاع الاقتصادى، ولا ننكر هنا اجتهادات إيجابية لبعض الوزراء الذين تعاقبوا، إلا أن التجريب كان هو السمة الغالبة طوال تلك السنوات. وسياسات التجريب هذه أرست مبدأً خطيراً ومدمراً لم يشهده السودان طوال حكوماته المتعاقبة منذ الاستقلال، وهو تناقص ولاية الخزانة العامة على المال العام، إذ لم تعد وزارة المالية هى الجهة الوحيدة التى تتحكم في المال العام وفقاً للضروريات المطلوبة، فأصبحت العديد من المؤسسات والهيئات العامة تشاركها هذا الحق الأصيل بل وتنازعها عليه، مما قلَّص من الرقابة والانضباط وسلطة المحاسبة لدى الوزارة. فهذا المناخ المتفلت هو الأب الشرعي لمناخات التعدى على المال العام سواء بالاختلاس أو الإهدار غير المسؤول، ولعل هذا يبدو واضحاً فى كل بؤر الفساد التى تكشفت فى العديد من مرافق الدولة وآخرها الأوقاف. لقد تراجعت فى السنوات الأخيرة الهيبة المطلوبة لأجهزة حكومية ظلت تحرس المال العام على مختلف العهود السياسية، من بينها ديوان النائب العام وديوان المراجع العام، وهذا التراجع لم يأتِ بسبب انعدام الكفاءة، ولكن بسبب تلك الجزر أو الجمهوريات الحكومية التى استأثرت بحصانات وهمية تجعلها فوق القانون والمساءلة والتدقيق، فأصبحت إقطاعيات يستباح فيها المال العام ويهدر دون حسيب أو رقيب أو حتى أدنى أنواع المحاسبة. وهذا الوضع السالب هو أول ما ينبغى أن يُراجع، ونأمل من السيد النائب الأول وهو يتعهد بالمراجعة الشاملة أمام البرلمان أن يولي هذا الأمر ما يستحق من اهتمام، ولقد سمعنا مراراً وتكراراً تصريحات كبار التنفيذيين فى بلادنا سواء على مستوى الرئاسة أو الوزراء أو الولاة وهم يحذرون كافة أجهزة الحكم الاتحادى والولائى من جباية المال العام عبر إيصالات مصطنعة لا تتبع لوزارة المالية الاتحادية، إلا أن كل تلك التحذيرات ذهبت أدراج الرياح، ومازال المال العام فى بلادنا له ألف صاحب وألف ناهب!! إن المعالجة الاقتصادية مهما كانت فاعليتها وقسوتها ومرارتها ستكون كالحرث فى البحر إذا لم تصاحبها معالجة سياسية، لأن أصل الأزمة سياسى وليس اقتصادياً، ومعالجة إخفاقاتنا السياسية بلا شك سوف تنعكس إيجاباً على المشهد الاقتصادي. إن هذا الفهم الوفاقى الذى ندعو له لا يعلق أية آمال على حكومة القاعدة العريضة وهى ليست عريضة التى نعايشها فى هذه الأيام العصيبة، فهذه الحكومة أصبحت جزءاً من الأزمة بدلاً من أن تكون جزءاً من الحل، ولعل المفهوم الذى بموجبه تشكلت تلك الحكومة وتوزعت وفقه المناصب كان أشبه بتوزيع الأسلاب والغنائم، فكل القوى السياسية المشاركة فيها سواء أكانت حزبية أو جهوية.. حاكمة أو معارضة .. كان يعنيها الخروج بأكبر قدر من المغانم والعطايا.. وغاب تماماً الهم الوطنى وتوارت الآمال القومية، لذلك لا عجب أن معظم من تم ترشيحهم وليس كلهم يفتقرون إلى الحد الأدنى من التأهيل المطلوب الذى يواكب حساسية ودقة الظرف الوطنى الذي تعيشه البلاد هذه الايام. إن التوافق الوطنى الذى ندعو اليه هو توافق بالدرجة الأولى على استشعار المسؤولية الوطنية وليس إشباع شهوات السلطة ومزاياها، ومن الممكن ومن الطبيعى أن يتم تشكيل حكومة وفاق وطنى حتى دون أن يكون بين أفرادها كادر حزبى واحد، لأن العبرة آخر الأمر بمدى القبول الوطنى الذى تُحظى به هذه الحكومة بغض النظر عن مكوناتها الحزبية. إن الوفاق الوطني يمكن أن يتم دون المشاركة في الحكم، ولكن النظرة الحزبية الضيقة من أحزاب الحكومة والمعارضة معاً هى التى أسست هذا الفهم الذى يربط الوفاق بالمشاركة، ومن الممكن أن تُحظى حكومة متفق عليها تملك الصلاحيات اللازمة والكفاءة المهنية المطلوبة والاستقلالية بأكبر قدر من السند الشعبى حتى لو لم تشارك فيها أحزاب الحكومة والمعارضة. إن الكفاءة المهنية والالتزام الوطنى هما المعياران الأساسيان اللذان نأمل أن نجدهما فى الحكومة القادمة، فالكفاءة المهنية هي ما يجنبنا شطحات التجريب وتعلم الحلاقة في رؤوسنا بأمواس صدئة كان من نتائجها الحالة المرضية التي نعيشها الآن، بينما الالتزام الوطنى هو الضمان الحقيقى لإنجاز المهام الوطنية والقومية. إن هذه الحكومة المنشودة لا يمكن التوافق عليها إلا عبر مؤتمر جامع يستوعب كافة القوى السياسية فى البلاد.. ولا يهم إن سميناه المؤتمر الدستورى أو المؤتمر الجامع أو المؤتمر القومى أو مؤتمر الخلاص أو الإنقاذ الوطنى، فالأسماء ليست مشكلة إنما العبرة بالأفعال، وكما قلنا من قبل فإن الاعتراف بالأزمة هو أول خطوة فى طريق العلاج، ومن الواجب قبل الاعتراف بالأزمة أن تستشعر كل القوى السياسية حجم الكارثة التى يقف الوطن على هاويتها، مما يتطلب أن يسمو الجميع فوق كافة المرارات والخصومات، وأن يقدموا مصلحة الوطن وبقاءه على كل ما عداه. لقد كتبت من قبل مناشداً السيد رئيس الجمهورية بحكم ما يملك من سلطات وتفويض، أن يتجاوز كافة القيود الحزبية والخلافات السياسية، وأن يمضى فى مبادرة وفاقية تتجه للجميع دون استثناء أو عزل أو إقصاء.. مبادرة تراجع الأخطاء وتتحرر من الانتماءات الحزبية والتراكمات السياسية المريرة، لتوفر مساحات رحبة للتلاقى الوطنى بين كافة القوى السياسية.. مبادرة غير معنية باقتسام المقاعد والمنافع، ولكن تسعى لاقتسام الهم الوطنى والتشارك فى صناعة وتأمين مستقبل هذا الوطن.. مبادرة لا تعلو فيها نخب حزبية على نخب أخرى ولا يعلو فيها حزب على آخر، فالجميع ينبغى أن يكونوا فيها على قدم المساواة طالما هم متساوون فى الآمال الوطنية.. مبادرة يتقدم فيها الأكفاء الوطنيون من أبناء هذا الشعب العظيم، وإن لم ينتموا لأى حزب، ويتوارى فيها الباهتون والعاجزون والمتطلعون حتى لو انتموا لأحزاب الحكومة أو المعارضة.. مبادرة تعمل على إطفاء نيران الحروب وتعتمد الحوار الوطنى سبيلاً للتفاهم الوطنى.. مبادرة تأخذ ناهبى المال العام والمفسدين بالشدة المطلوبة مهما علت مراتبهم ومهما كان انتماؤهم الحزبى أو السياسى، فالضيق المعيشي الذى يعيشه أبناء الشعب كان من الممكن احتماله لو انحصرت أسبابه فى شح الموارد والأزمات الكونية التى يشهدها العالم، ولكنه أيضاً نتاج الحروب ونهب موارد الدولة من قبل بعض المفسدين. إننا نأمل من السيد الرئيس أن يمكننا من أن نرى هذه المبادرة تتحقق، فما عاد الزمن يسعف وما عاد الوطن يحتمل الانتظار إذا ما حاولنا أن نتعامل بما هو قائم دون الإصلاح المطلوب، ولعمل الإصلاح المطلوب ينبغي علينا أن نحدث تغييراً حقيقياً يمكن أن نتفادى به إعادة إنتاج الأزمة بذات السيناريو ونفس الممثلين والمخرجين.. إذن فعلينا أن نقوي وحدتنا حتى نتجاوز الخطر الراهن.. ودون ذلك فالأسوأ هو القادم!!