يبدو أن هذا العام بادي البهاء، كامل السناء، لوطن دلائله مشرقة، ودعائمه قائمة، وسُبُله واضحة، فتعلية السد المنيف حتماً سوف ترخي خناقاً، وتطلق عقالاً، وتفك أسراً، لاقتصاد عانى من انقطاع السير، وانخزال الحركة، وإغبرار الرؤى ردحاً من الزمان، فالأنظمة السابقة التي ضاقت عليها المذاهب، والتبست عليها المساعي، لم تجد في ذلك السد الذي يقف شامخاً في أعطاف الوجود الغرس المثمر، والجوهر السمين الذي يجير من جور الضنى، ويحفظ من طوارق الحدثان. إن تعلية السد العاتي قلادة ابتهاج، ومألف اغتباط لأهل السودان قاطبة ولولاية النيل الأزرق التي دهتها دواهٍ الهيجاء، وتكأدتها ويلات الحروب، فإنسان الولاية الذي يبحث عن ضحكة تملأ شدقيه، وتبدي ناجذيه، وتفرج كربه الأليم، وتكشف همه المقيم، استخفه الفرح، وهزّه السرور، وأقبل يميد من الطرب وهو يرمق ذلك الطود الأشم بحنو بالغ، الصرح الذي يرفد ولايته وغيرها من الولايات بعطاء غمر ونائل جزل، هو أعظم نعمة عنده جادت بها على أرضه السماء، نعمة لا تسطع في اللمحة الأولى ثم تجنح إلى الأفول، بل هي دائمة التوهج، سريعة القفز والوثب، نعمة قمينة بأن تكفل لاقتصادنا المنهار بضاضة العافية، ولدولتنا التي فتَّ من عضدها الفقر، وقيض من رجائها العوز، الغني والرياش. إنّ البراهين الساطعة، والدلائل الناطقة، والشواهد الصادقة، تؤكد أن رياح الاكتفاء والثراء قد هبت، وتباشير الرقي والتطور قد لاحت، ولكن ما يحزُّ في النفس أن هناك عصابة ارتمت في أحضان الامبريالية تسعى جاهدة إلى أن تجر حصان التنمية للوراء، ففي حواشي النيل الأزرق يقبع عميل لا تؤلمه الغضاضة، أو يمضه الهوان، عميل أوجف في عدوانه، وسدر في جحوده، ومضى في عمايته، بغيض انقاد له الصعب، وسُلِس له المقاد، وتيسر له العسير، فجثم على سدة الحكم في سنوات عجاف أرسى فيها قواعد الخزي والعار، وأرسخ أصول الخنا والفجور، عدو غاشم شبَّ في كنف الحركة الشعبية التي وجد فيها ملجأ حامياً، وسنداً حافظاً، أمدته بما يعينه، وأعانته بما يسعفه ليجعل من ولاية النيل الأزرق البكر مسافة شاسعة عن الأمن، وطية بعيدة عن الاستقرار، ومحلّةُ نازحة عن الرقي، ولكن هيهات أن ينال ما يرومه، فجيشنا الكاسر الذي تسلق شوامخ المجد واعتلى شواهق السؤدد، لعقار وحفنته بالمرصاد، الجيش الذي جذم حبال الكرب، وصرّم مهلة المصائب، بسالته في الذود عن تراب الوطن ضلّ فيها الفكر، وانقطعت دونها المعرفة، لقد تبددت جحافل الأمل عند الوالي السابق وشرذمته في اجتياح رقعة الولاية التي لم تنكب عن الدين، أو تنكص عن اليقين، لأنه يدرك جلياً أن مناط الثقة، ومعقد الرجاء، قواتنا المسلحة التي لا تصرعها الشدائد، أو تضعضعها النوائب لن تمكنه من تحقيق تلك الأمنية التي دونها خرط القتاد. أما بعد، إن تعلية خزان الروصيرص التي آذنت بالخير، وبرقت بالمأمول، وهطلت بالغيث، تجعلنا نشيد بذلك الإنجاز الذي يرفع من دعائم العز، ويثبت من وطائد الرفعة لسوداننا الحبيب الذي عرف التميز كنهاً وحقيقة، ولكن تركة الاستعمار هي التي جعلتنا نقف في مصاف الدول المتأخرة، وليس في ذلك الزعم شبهة من تزيد أو إسراف.