حمل إليَّ المهندس عثمان حسين من المؤسسة العامة للبترول مقالاً ممتازاً عمره اكثر من خمسة وعشرين عاماً، ورد في مجلة «وادي النيل» التي كانت تصدر المطبوعات حتى السنوات الخمس الاولى من عقد الثمانينيات.. وكانت تهتم بقضايا مصر والسودان، ويقوم بتحريرها كوكبة من الكتّاب والمهتمين باقتصاد البلدين والحادبين على التكامل وحُسن الجوار بين القطرين.. ويا ليت هذه المجلة ترى النور مرة أخرى. والمقال ذو طبيعة ثقافية بحتة، ويتحدث عن عادات بعض قبائل الجنوب، حيث يقال إن زعيم القبيلة يتم قتله عند بلوغه سن التقاعد وعندما يكون غير قادر على إدارة شؤون القبيلة. ويقال إنه في حالة وصول الزعيم إلى مرحلة متأخرة تقوم بتحديدها كبرى زوجاته، فإنها تقوم بإخطار كبار رجال القبيلة بالأمر، فيوافقون على قتل الزعيم فوراً، خاصة إذا ما اقتنعوا تماماً بأن الزعيم لم يعد قادراً على ممارسة أعبائه «الجنسية» بناءً على شهادة الزوجة الكبرى أولاً والزوجات الأصغر ثانياً، ويتم قتل الزعيم عن طريق ضربه بواسطة زوجاته وتكسير عظامه فيما يُعرف بعملية (الفندكة)، أي (كأنه مطحون في فندك). وعندما تنتهي هذه المراسم يوضع نصب تذكاري او (قطية) على قبر الزعيم.. وفي بعض الاحيان يتم قتل الزعيم الذي فقد الأهلية والأهلية (الإدارية) للقبيلة عن طريق عزله ووضعه في (قطية) منفصلة، وتوضع معه إحدى الشابات الجميلات ويتم إغلاق القطية بإحكام عن طريق قفل منافذها.. ويموت الزعيم وتموت معه مرافقته الشابة الجميلة جوعاً وعطشاً.. ويرى المنتسبون الى القبيلة الجنوبية أن هذا من طقوس الموت التي فيها الكثير من التكريم للزعيم حسب ثقافة ومعتقدات القبيلة.. وقد أدى نقاشنا لإمكانية قتل أو إعدام الزعماء بهذه الطريقة الى أن نجد فيه منطقاً مقبولاً عند القبيلة الجنوبية إن صحت الرواية، ذلك لأن «الزعيم» في الغالب يرفض أن يعترف بأنه قد صار عجوزاً جداً وأنه لم يعد قادراً على ممارسة أعبائه تجاه رعيته. وعليه يكون من الضروري نشوء ثقافة ذات قانون اجتماعي صارم تؤدي إلى تخلص «الناس» من ذلك الزعيم الذي «ما داير يمشي» وكذلك الزعماء الآخرين الذين «ما دايرين يمشوا برضو»، مع أن «الواحد فيهم» صار عمره أكثر من «كم وثمانين» عاماً. أي أنه أكبر بسبعة عشر عاماً من العمر النبوي، وأكبر من أعمار الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم.. ويستوى هنا كل زعمائنا ابتداءً من زعماء الأحزاب مروراً بزعماء المجموعات الفئوية والعرقية وزعماء العشائر. وقد تنجح الفكرة إذا اقتنعت زوجات الزعماء ووافقن على القيام بعملية (الفندكة) لهؤلاء الزعماء الذين (صوفنوا) من كثرة القعاد على أنوف مريديهم وتابعيهم.. فقط لا بد أن تتأكد السيدات زوجات الزعماء من أن الزعيم قد صار فعلاً غير قادر على القيام بواجباته التي ذكرناها حسب الطريقة المتبعة عند القبيلة الجنوبية، وبعد اعترافات تسجلها الزوجات الكبار والصغيرات. وعلى كل حال قمت ومعي مجموعة من الباحثين بمحاولة حصر الزعماء (القابلين) للفندكة، ووجدنا أن العدد كبير جداً، ووجدنا أن المستحقين لهذه العملية من الزعماء قد يصل عددهم إلى أكثر من ثلاثين زعيماً في الخرطوم وحدها، هذا غير عواصمالولايات والمناطق الطرفية. كسرة: تم التوقيع على اتفاقية السلام الشامل المسماة اتفاقية نيفاشا، ولكنها تعثرت ولم يقم الجنوبيون بالمطلوب منهم، مع أننا نفذنا كل مطلوباتها.. وتركناهم وأعطيناهم فرصة أخرى بعد الجلوس مع سلفا كير عندما حل محل قرنق.. والجنوبيون في مقتل قرنق الذي مات موت الله في دولة أجنبية وفي طيارة أجنبية وبرفقة أجانب، عاثوا فساداً في السودان، ومع ذلك تركناهم وأعطيناهم فرصة أخرى.. ثم أعطيناهم فرصة أن يزوّروا في الانتخابات، وأن يحكموا الجنوب ويسيطروا عليه.. وأعطيناهم فرصة أن يمارسوا الاستفتاء قبل أن نفصل في أمر الحدود والأمن.. وأعطيناهم فرصة أن ينفصلوا قبل أن نحسم الموضوع، وجلسنا معهم ووقعنا اتفاقية أخرى، ولكنهم لم يلتزموا بكل هذه الاتفاقيات، ثم جلست معهم الوفود مرة ومرتين وثلاثاً وتم توقيع اتفاقية واتفاقيتين وثلاث ولم ينفذوا شيئاً، وجلس رئيسنا مع رئيسهم مرة ومرتين وثلاثاً ولم يحدث أى اختراق، بل إن الأمر ازداد تعقيداً.. والآن جلس الرئيس أول أمس لتكون النتيجة أن سلفا كير إن شاء الله سوف يصدر لنا مكتوباً يقول فيه إنه فك الارتباط مع عقار وعرمان.. يا جماعة نحن ما دايرين ورقة تعهد.. نحن دايرين نشوف عرمان وعقار والحلو برة الجنوب، ولايصين في كينيا أو يوغندا عشان بعد داك الحكومة تعمل ليهم عملية الفندكة التي ذكرناها في صلب المقال.. أو نقفلهم في قطية وتحفر ليهم وتدفنهم داخل القطية على طريقة القبيلة الجنوبية بتاعة الفندكة. خاصة أنهم شركاء أصليون للجنوبيين في التمرد وفي الاتفاق على تدمير السودان، مما يجعلهم أقرب إلى ممارسة تلك الطقوس بتاعة (الفندكة).