كنتُ أبحث عن منطقة أختبئ فيها بعيداً عن أعين الخلق... طفت على جميع الأماكن وأخيراً وجدت منطقة محايدة بين الأذن والعين فاختبأت فيها.. فلا العين تراني ولا الأذن تسمعني. «من مذكرات قملة» أوراق إفريقية للأخ الدكتور كمال الطيب يسن كتاب عن رحلاته في إفريقيا أثار فيّ شجوناً عميقة حيث إنني كنت قد عملت في بداية السبعينيات عضواً في سكرتارية هيئة المتاحف الإفريقية مما أتاح لي زيارة عدد كبير من دول شرق ووسط إفريقيا. وأذكر أنني قرأت مرة أن الغربة غابة استوائية.. ولكن الشعور الذي يغمرك وأنت تدخل غابة استوائية بمعناها الجغرافي شعور لا يماثله شيء. في خريف عام «1972م» وصلت إلى مدينة ليفنقستون المطلة على نهر الزامبيزي في زامبيا. بهو فندق مسيو أوتونيا وهو أحد فنادق سلسلة الإنتركونتننتال- يطل على شلالات فيكتوريا الهادرة وهي ترسم ألوان الطيف على ممرات ونوافذ الفندق.. رذاذ ناعم يختلط بأزهار أشجار الجاكراندا الزرقاء التي تتناثر على المكان- يثير في النفس إحساساً بعافية دائمة ونشوة لا نهائية. الصباح في ذلك المكان يكتسي كل يوم وجهاً جديداً.. تصنعه الفصول المتعاقبة التي تمر كلها في سويعات.. أحياناً يغسله ضوء لا تدري من أين جاء والسماء غارقة في سحب ركامية سوداء.. وأحياناً يهبط الليل فجأة وكأنه عباءة ثقيلة.. وأشعر أنه ليس من المستباح أن تندهش.. فهذا نهار يخلع عن الوجوه قناع الاندهاش. جاءني صديقي إدوارد شاموانا.. وقد كان محامياً مرموقاً ورئيساً لأول مؤتمر إفريقي لهيئة المتاحف يُعقد في لوساكا.. في ذلك الوقت كنت أعمل مديراً لمتحف السودان للتاريخ الطبيعي... كانت تشغلنا قضايا المحافظة على البيئات الطبيعية ونحن نواجه زحفاً صحراوياً عاتياً وتراجعاً في الغطاء النباتي وانحساراً في مراعي الحيوانات. وكنا ننشغل بأمور القارة الإفريقية ولم تكن زمبابوي في الناحية الأخرى من النهر قد نالت استقلالها في ذلك الوقت بل كانت تسمى روديسيا الجنوبية وكان يحكمها إيان سميث ذلك العنصري الأبيض الذي كان يؤمن بتفوق العرق الأوربي على سكان روديسيا الأصليين. شاموانا يتحدث عن تاريخ ذلك الجزء من إفريقيا الجنوبية ويثير عدة قضايا في وقت واحد. كيف سميت هذه المدينة الإفريقية التي وجدت قبل أن يوجد ذلك الرجل الأوروبي والذي وضع قدمه عليها فسماها ليفنقستون على أساس أنه مكتشفها؟ ثم إنه أهدى إلى ملكة بريطانيا شلالاً هائلاً هادراً أطلق عليه اسم شلالات فيكتوريا. لقد أراد الرجل الأوربي أن يقول إن تاريخ هذه البلاد قد بدأ بمجيئه عام 1855م وهو في طريقه إلى كولمين في إفريقيا الشرقية البرتغالية. وإن كل الشعوب التي كانت تسكن منذ آلاف السنين وعرفت تلك المنطقة شجرة إثر شجرة لا تساوي شيئاً. ولهذا عندما وصلت الأنباء إلى الحكومة البريطانية عينته قنصلاً في كولمين وأرسلته في بعثة تبشيرية هذه المرة حاملاً بندقية وكتاباً لإخضاع سكان الزامبيزي إلى سلطة الحكومة البريطانية عن طريق البندقية وإلى سلطات الرب عن طريق الكتاب الذي جاء يحمله وهو يفسر نصوص الكتاب لسكان إفريقيا قائلاً: إن الرب يقول: من ضربك على خدك الأيمن أدر له خدك الأيسر. وينفجر شاموانا غاضباً: تصور كل إفريقيا سرقت بهذه الطريقة. نحن نكتشف مثلنا مثل غيرنا من المعالم الجغرافية ونطالب بأن ندير خدنا الأيمن بعد أن يكون خدنا الأيسر قد شبع ضرباً ولطماً. ونحن لا نعرف ماذا نفعل عندما نُضرب على الخدين معاً. كان معي باسكال ماكامبيلا الذي جاء ممثلاً لبلده الكونغو برازافيل بصفته أحد العاملين في حقل الثقافة ومشرفاً على هيئة التراث القومي. كان شخصاً قصير القامة، قليل الجسد، يرتدي نظارة طبية وبزة زرقاء مدلاً على تبعيته الخط الصيني في رؤيته الماركسية. أكثر ما يميزه ذلك الرأس الغليظ والجبهة البارزة والذقن المعشعشة. يتحدث باسكال بصوت خفيض أقرب إلى الهمس الشيء الذي يعطيه ذلك الوقار الذي يظهره كمفكر ثوري من الذين ظلوا يعملون تحت الأرض أيام الاستعمار البلجيكي ... جمعتنا ورشة عمل واحدة ولم أكن مرتاحاً لمظهره ذلك ومظهر بعض التنزانيين الذين كنت أصنفهم في خانة أولئك الأفارقة الذين لا يعرفون عن الثورة إلا هذا المظهر والذي يعلنون به انتماءهم لهذا المعسكر أو ذاك المعسكر من الاتجاهات الماركسية .. وكنت أعتقد أن حضورهم لذلك المؤتمر لابد أن يكون قد خضع لغربلة شديدة في أوطانهم وأن الاختيار لم يقع عليه إلا بسبب حماسهم السياسي وموالاتهم للأنظمة في أقطارهم. ولكن اقترابي من باسكال كشف لي قصوراً شنيعاً في أحكامي تلك. لقد وجدت بأسكال شخصاً مهموماً بقضايا القارة الإفريقية كلها وهو يعتقد أن بلاده لا يمكن أن تحقق العدل الاجتماعي والاستقرار السياسي وهناك أقطار في إفريقيا ما زالت تعاني من التسلط الاستعماري كجنوب إفريقيا وأنجولا ونامبيا. باسكال يتحدث معي عن خيبة أمله في الثورة في بلاده لأن الحكام لم يتجهوا إلى التنمية الحقيقية والاهتمام بقضايا الريف وإن كل تلك النظريات الثورية التي يتشدق بها الحكام في بلاده تقود إلى تثبيت نفوذهم وبقائهم في الحكم ... وإن الكونغو التي تقسمت إلى الكونغو برازافيل والكنغو كنشاسا يمكن أن تنقسم وتتصدع إلى عدة كيانات متصارعة لأن الطليعة الحاكمة تعمق بأفعالها النعرات القبلية والعرقية وإنه حقيقة يخاف من المستقبل حينما خسر رهانه على الحاضر.. وإن الكونغو برازافيل التي ضرب عليها حكامُها عزلة تامة لن تحقق شيئاً في مجال التقدم الاقتصادي. فمن الناحية الأخرى كان هناك موبوتو سيسي سيكو. لقد جاء الشاويش موبوتو بعد تصفية الثائر الوطني لوممبا واندحار شومبي والذي حجز في الجزائر إلى أن مات ومات كذلك كازافوبو وغيره من الزعماء وتسلل من الصفوف الخلفية ذلك الشاويش المصيبة حيث حكم الكونغو بقبضة من حديد. كان يؤمن أن الحديد فيه بأس شديد ولذلك عندما جاء إلى الحكم كانت قبضته حديدية. وأقام سياجاً حديدياً من الوزراء بينما تولى هو بنفسه إدارة مرفق السكك الحديدية. وزع كبسولات الحديد مجاناً على النساء الحمل حتى يلدن جيلاً حديدياً. وقام بالاستيلاء على ثروة الكونغو وهي من أغنى البلاد الإفريقية وأدخلها في الديون وهام شعبها على وجه يعاني المرض والفاقة والجوع وهم يلتهمون القرود والكلاب وكل هوام الأرض بينما ثروتهم بمليارات الدولارات ترقد في البنوك السويسرية والفرنسية والبهاما وهونج كونج . قفل راجعاً من رحلة صيد وسط زوبعة رعدية وأمطار غزيرة. وفي الصباح كان كل ذلك الحديد قد أصيب بالصدأ. بينما صعد كابيلا ورفاقه قاطرة الحكم الحديدية.. لا أعرف ما الذي حدث لباسكال الآن ... ولكن الأحداث الأخيرة في الكونغو برازافيل تؤكد لي صدق حدسه قبل ربع قرن من الزمان. ورش العمل التي أقمناها في ذلك التجمع أتاحت لي الفرصة كي ألتقي عددًا من الشباب أمثالي في ذلك الزمان إذ أنني لا بد أن أكون قد كنت شاباً في يوم من الأيام. التقيت مساوي رشيدي من كينيا وبجين لوكياموزي من زنزبار حيث كانت تعمل معلمة مسؤولة عن الوسائل السمعية والبصرية ورافقتها إلى زنزبار عدة مرات. وكنا نناقش قضايا إفريقيا من خلال قراءتنا للأدب الإفريقي الذي يُكتب بلسان أوربي ,وبوجدان إفريقي وكنا نسترجع ما كان يكتبه أدباء البحر الكاريبي وهم يحملون تلك البذرة الإفريقية في دمائهم مثل الكاتب الهاييتي جاك رومان الذي كان يفجر في أدبه دائماً قضية ذلك الرجل الأوربي الذي يسكن في داخله، الذي يعده جاك رومان محنة يصعب التعايش معها فالأوربيون حملوا جدوده من سواحل إفريقيا إلى الدنيا الجديدة ليعملوا في مزارع القطن والسكر وبعد صراع مرير امتد لسنوات طويلة نال هؤلاء حريتهم ولكن ليكتشفوا أن أحفادهم يحملون الدماء الأوربية في داخلهم بعد اختلاط عرقي ولد هجيناً من البشر لهم سمات إفريقية ولون برونزي. وجاك رومان يدلل على هامشية ذلك التزاوج الذي حدث بين الأوربيين والإفريقيين وإنه بالرغم من وجود تلك الدماء الأوربية في داخله إلا أنها لا تعدو أن تكون أكثر من فقاعة. «فلم يعد (الرجل الاروبي) الذي جعلك نسلاً له على أن يكون فقاعة مثل بصقة يبصقها المرء علي الساحل». هذا الأدب الغاضب الذي يعبر بشيء من المرارة عن تلك الحقيقة التاريخية هو السمة الغالبة لأدب البحر الكاريبي. ومن ناحية أخرى فإن كُتاباً وأدباء إفريقيين أمثال شنوا اشبي وول سونيكا من نيجريا وانقوقي من كينيا الذين لا يحملون جذورًا أوربية وجدوا أنفسهم وهم يعبرون عن واقع إفريقي وقضايا إفريقية بلسان أوربي فأدبهم يكتبونه باللغة الإنجليزية أو بالفرنسية مثل أشعار ليوبولد سينغور .. وتبقى مشكلة الرجل الأوربي قائمة فهو إن لم يسكن دماءهم فقد سكن ألسنتهم وفكرهم وتظل محاولة سلخه من جلودهم وتاريخهم بصورة واعية تتكرر في أدب الغضب الإفريقي .