شجعني الأخ الصديق الأستاذ محمد عثمان حسن حسين وهو أحد الذين يقرأون بعمق ويغوصون داخل النص مفككين ومفجرين ما فيه من خبايا، أقول شجعني على مواصلة الجزء الذي بدأته عن مفكرتي الإفريقية التي كتبتها عندما كنتُ عضواً في سكرتارية هيئة المتاحف الإفريقية وقد نشرتُ أجزاءً منها في جريدة الندوة التي كانت تصدر في مكةالمكرمة. لقد استفدت كماً معرفياً هائلاً من زياراتي لدول وسط وشرق وجنوب إفريقيا وإفريقيا كانت تتلمس طريقها خارجة من تلك الحقبة الاستعمارية دون رؤية وطنية واضحة ولهذا سقطت في مستنقع الحروب والانقلابات. لم يكن الكاتب ازكيل مفاهيليلي من جنوب إفريقيا يدرك أن التساؤلات التي أثارها في روايته «في الشارع الثاني» ستفتح الباب على أسئلة أكثر صعوبة وأكثر تعقيداً ليس في حقيقة ذلك الصراع الذي كان في جنوب إفريقيا فحسب بل في جميع الدول الإفريقية وصراعاتها اليوم. يقول مفاهليلي: «اخذنا نعتاد الحياة في منطقة الشارع الثاني.. أخي وأختي وأنا.. كانت الشوارع والطرقات شيئاً جديداً بالنسبة لنا. كان ذهني يتساءل لماذا يبني الناس بيوتاً كلها تقع في خط مستقيم؟. ولماذا يذهب الناس إلى جدول في مبنى صغير ليقضوا حاجاتهم؟ ولماذا يحب الناس أن ينعزلوا عن الآخرين فيقيموا بينهم سياجاً؟ لم يكن الحال هكذا في قرية موباننق فلم يكن للبيوت أي نظام وكنا نتزاور ونستطيع أن نجلس كلنا حول النار التي يستعملها الجميع ونقص الحكايات حتى يصيح الديك وليس الحال كذلك في الشارع الثاني» «ترجمة عبد العزيز صادق». ومفاهليلي يشير إلى ذلك الخط الفاصل الذي يفصل بين البيض والسود أيام سياسة التفريق العنصري وقد كتب مفاهليلي روايته تلك عام 1959 ومنذ ذلك الوقت اتسعت دائرة تلك التساؤلات لتشمل العلاقة بين السود والسود... فبعد خروج المستعمر أو حتى بعد زوال سياسة التفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا فإن تلك النار التي كان السود يجتمعون حولها وهم يقصون الحكايات قد تحولت إلى عدة نيران لا ليجلس الناس حولها ولكن لكي تحرقهم وتحرق الآخرين مثلما هو الحال في جميع بؤر الصدام المسلح في إفريقيا وإذا كانت البيوت لم تنتظم في خط مستقيم فإن الناس قد انتظموا في خطوط مستقيمة متقاطعة.. كل خط مدجج بالسلاح إلى أسنانه وظهرت القبيلة والأعراق في مكان الدولة وشعر الناس أن تلك الكيانات الصغيرة هي التي تعطيهم الأمان وتصد عنهم هجمات الآخرين من الناحية الأخرى للشارع. ان تساؤلات مفاهليلي تنطبق على اوضاع كثيرة... عدد ما شئت من التقاطعات في واقع الحياة السياسية والاجتماعية في افريقيا اليوم وستجد ان القضية لم تعد محصورة في شارع واحد أو في تقاطع واحد بل تقاطعات عديدة وشوارع عديدة ولكنها كلها لا تؤدي الى روما. أكتب الآن وأنا أتذكر أولئك الصحاب. ترى أين هم الآن؟ المحامي الضليع ادوارد شاموانا ألقي عليه القبض هكذا سمعت في الإذاعة البريطانية وأودع السجن منذ عشرة أعوام بعد أن حُكم عليه بالإعدام وبتهمة التآمر لقلب نظام الحكم وعرفت لماذا انقطعت أخباره عني وقد أُصيب بمرض السرطان وهو في سجنه.. والرئيس كاوندا الذي أدخله السجن غادر الحكم ومقاليد الأمور وكاوندا يقول في آخر خطبة له بعد اعترافه بالهزيمة في الانتخابات: «يوم لك ويوم عليك وهذه ليست نهاية العالم..» ولا أدري هل أطلق الرئيس شالوبا سراح صديقي شاموانا أم لا يزال في السجن وشالوبا نفسه يواجه هذه الأيام تحقيقات واتهامات بعد أن غادر كرسي الحكم. الفاجعة: أما الفاجعة الكبرى عندما وصلتني رسالة من مساوي رشيدي عام 1974م تقول إن جين لوكياموزي قد انتحرت. .. تناولت كمية من الأقراص المنومة وختمت وجود أربعة وعشرين عاماً من حياتها في هدوء. كما تسللت داخل رحم الحياة تسللت خارجة منها دون أن يلاحظ أحد ذلك الا القلة التي عرفت جين لوكياموزي. في يوم كانت طيور النورس تحلق بأجنحتها بعيداً عن المرفأ القديم في ساحل جزيرة زنزبار. وظلال المساء الزاحفة بأشباح طويلة كانت ترسم نفسها باستمرار على امتداد الساحل... وقفت ارقب الأفق والذي كانت تقف بيني وبينه بعض من سحابات الشتاء الرمادية اللون... قلت لجين لوكيا موزي: - هل يزحف الشتاء على هذه السواحل بقسوة كما يفعل في المناطق الأخرى... أجابت: الشتاء هنا.. يحمل معه الأمطار الغزيرة ولكن الدفء موجود... فمنذ القديم كانت هذه الأرجاء تستقبل الشتاء كما تستقبل السفن القادمة من بعيد الشتاء عندنا يأتي على ظهر سفينة ويمكث هنا بعض الوقت ولا يتخلف عن موعده أبدًا... طيور النورس واللقلق والترنة تأتي في المقدمة وهي تجر من خلفها المركبة الشتائية.. ومضت فترة لم نكن نتحدث فيها، خيل اليّ أنني كنت استعرض في ذهني شريط الأحداث التاريخية التي مرت علي ذلك الساحل... ففي السابع والعشرين من اغسطس عام 1896 شهد هذا الساحل اقصر حرب في التاريخ. فقد شنت بريطانيا بقيادة الادميرال سير هاري روسون حرباً بدأت في الساعة التاسعة والدقيقة اثنين في الصباح وانتهت في الساعة التاسعة والدقيقة اربعين - اى 38 دقيقة على سلطان زنزبار السلطان سعيد خالد وقد انتهت الحرب باستسلام السلطان ومنح الادميرال نجمة زنزبار... وقد تحسر البريطانيون جداً على هذه الحرب القصيرة وتحسروا اكثر على ذخيرتهم التي استعملوها في اقصر حرب في التاريخ ولذلك امرت الحكومة البريطانية سكان الجزيرة بدفع قيمة الذخيرة التي استعملت في الحرب ضدهم. وقد قال الادميرال سير هاري روسون مبرراً هذا القرار. - هؤلاء السذج ما كان لهم ان يحاربوا جيوش الامبراطورية لهذا الزمن البسيط.. وعليه سنجعلهم يدفعون قيمة الذخيرة التي اهدرت بدون مبرر. جين تقول: هذا الساحل... شهد احداثاً تاريخية هامة.. فقد جاء قدماء المصريين هنا قبل 600 سنة قبل ميلاد المسيح وحملوا معهم كميات كبيرة من الفواكه... والرحالة ابن بطوطة الذى زار هذه المناطق في عام 1328م توقف في ممباسا وذكر انها كانت مدفونة وسط اشجار الموز والليمون... اما البرتغاليون فقد احضروا معهم عينات كثيرة من الفواكه.. تركوها خلفهم في هذا الساحل الشرقي لافريقيا.. جين تلتفت نحوي وتقول: - هل رأيت ممباسا؟ قلت: نعم قالت: كان لي صديق من ممباسا... قابلته في اروشا.. « العاصمة التي كانت مقترحة لدول شرق افربقيا وتقع على حدود تنزانيا وكينيا».. كانت اياماً جميلة عظيمة.. لكنه اختفى الآن... لم تبق الا بقايا ذكريات اجترها كما تجتر الشاة الكآبة... لماذا يختفي الناس الطيبون ولا يعيشون الا في ذاكرتنا؟ لماذا لا نجدهم دائماً... اصحابنا المسافرون هل ترى سيعودون... وهل سيعرفوننا؟.. ألم يكن لك صديق او صديقة مسافرة؟ قلت: نعم قالت: هل تفتقدهم..؟ قلت: كثيراً جداً قالت: انا منذ ان فقدت صحابي... فقدت القدرة على الاستمرار.. الحياة كذبة كبرى، انزو من نيجيريا طحنته الحرب الأهلية في بيافرا وتناثرت اشلاؤه في العراء... نيانقا... هاجر الى امريكا... جوموكالا.. اختفى في ممباسا... وهكذا... الطيبون يعيشون فترة وجيزة... انظر ستجد آلاف التافهين من حولك يزيد عددهم لكنهم لا يتناقصون ابداً.. جين تتحدث. صوتها في تلك الليلة كان عمق ارقي المحموم... احسست به في الاحشاء يملؤني هماً ورغبة.. والأشياء تجذب بعضها.. كانت ظلال كلماتها ممدودة على المرفأ.. طويلة تمتد الى ما بعد البحر... والليل يهبط فوق جزيرة زنزنار ويندلق على صدورنا كالزيت هناك حيث تولد المدن كالاحلام وحيث يموت الفعل داخل المحار... وحيث تذوب القدرة في حفنة من رمال الساحل... كان صوتها تلك الليلة صدى نفسى المنكسرة منذ اعوام. والآن... تموت جين لوكياموزي... تنتحر... وتضع خاتمة لعذاب وجودها... فهل تومض نفس اثقلها الحزن... ومن اين آتي بالكلام الفرح ايها الصحاب... معذرة... فلقد تحاورنا كثيراً وتكلمنا كثيراً وامتطينا صهوة الأمواج كثيراً في تلك الليلة كانت جين تبكي صحابها المسافرين.. لأول مرة أشاهد الدموع بهذا الحجم.. الدموع المختلطة بقطرات المطر الشتوي والابخرة المالحة... نقية كقطرة المطر... ساطعة كالنجم الموغل في جوف الظلمة... رائعة كأروع ما تكون الروعة... دافئة كشهقة الفجر بعد أفول الليل. والآن تنتحر فتتكسر في روحي تلك الدموع كالهزيمة.. اذوق فيها طعم الملح وطعم الحزن. ايتها السحب الممتلئة كنساء جزيرة مدغشقر... يا وهج نفسي المنطفئة منذ سنين هل تقتلني رياحك القارسة ام ان اوراق الاشجار السامقة نحو الأعالي ستأخذني في حضنها... ترضعني من اثدائها. زهو ايامي المقبلة... قاسية تلك اللحظة.. اللحظة التي تصل فيها رسالة من رشيدي مساوي تقول ان جين لوكيا موزي قد انتحرت وان الشتاء يزحف مرة اخرى. والباحثة الامريكية ديان فوسي، قابلتها عام 1974 م في بحيرة ناكورو بكينيا عندما جاءت لتقابل جون هوبكرافت الذى كان يعمل في ذلك الوقت مديراً لحظيرة ناكورو لطيور الفلامنقو.. واسترعى انتباهي انها كانت طويلة جداً، فارعة القوام، يصل طولها إلى ستة اقدام وكانت تتحدث في مشكلاتها في الكنغو وفي رواندا فقد بدأت دراستها على غوريلا الجبل عندما جاءت الى كينيا وقابلت الدكتور لويس ليكي الذى وجهها لدراسة الغوريلا في المنحدرات البركانية لغابات فيرنقا بالكنغو. اقامت معسكراً لها داخل غابات الفيرونقا الكثيفة محاولة الاقتراب من مجتمع الغوريلا.. لقد استطاعت ان تنضم الى ذلك المجتمع وان تعطي أفراده اسماء مثل ديجيت والعم بيرت وماكو، الا انها اضطرت الى اخلاء معسكرها عام 1976م بعد الحرب الاهلية في الكنغو وانتقلت الى رواندا حيث اقامت معسكر كاريسوك للابحاث العلمية وكانت تقضي اياماً عديدة وحدها داخل ذلك المعسكر وهي تراقب افراد الغوريلا الذين اعتبرتهم عائلتها فكانت تقول للزوار الذين يأتون لزيارة معسكرها: * «كلكم تملكون عائلات والغوريلا هي عائلتي التي احبها واعرفها واستطاعت ان تنقل للعالم كيف ان مجتمع الغوريلا مهدد بالانقراض بسبب ذلك الصيد الجائر الذى تتعرض له من الصيادين الذين يقتلون الغوريلا ويسلخون جلدها ويصنعون من اياديها مطافئ للسجائر.. وقد قاموا بقتل حيواناتها ديجيت والعم بيرت وماكو وقد نشرت أول كتبها عن مجتمع الغوريلا تحت عنوان «غوريلا في الضباب». وعندما حاولت حكومة رواندا تحويل مركز ابحاثها الى معسكر سياحي قاومت ديان فوسي كثيراً وصرحت للصحفيين عام 1985م بأنها اذا دعا الامر الى المقاومة في سبيل بقاء معسكرها فانها ستقاوم دفاعاً عن اصحابها واسرتها من الغوريلا، وقبيل نهاية ذلك العام وجدت ديان فوسي وهي تسبح في بركة من دمائها بعد ان قُتلت علي ايدي مجهولين، واشارت اصابع الاتهام الى باحث امريكي يدعى هارولد هيز هرب من رواندا قبل ان تدينه المحكمة في غيابه بقتل ديان فوسي. وهارولد هيز هذا كان رئيساً لتحرير مجلة اسكواير الامريكية وقد كتب كتاباً عن ديان فوسي لم يعط فيه اجابة مقنعة بعدم تورطه في قتلها الا انه هو نفسه توفي إثر اصابته بسرطان في المخ عام 1989 وقد دفنت ديان فوسي بالقرب من الغوريلا التي احبتها ودفعت حياتها ثمناً لذلك الحب.