عندما اسس الامام الشهيد حسن البنا جماعة الاخوان المسلمين في نهاية العشرينيات من القرن الماضي «1928 م» بمصر بعد اربع سنوات فقط من سقوط الخلافة الاسلامية لم يكن يريد لها ان تكون حركة قومية تتفاعل مع القضايا القومية للامة المصرية وتغلق نفسها في واقع المجتمع المصري وانما كان جليًا انه ارادها حركة اسلامية عالمية تنتظم العالم الاسلامي كله وتتحمل عبء بعث الحضارة الاسلامية عبر حركة شاملة تعيد للاسلام موقعه الريادي في قيادة العالم كله بمبادئ الحضارة الإسلامية التي عمل اعداء الإسلام بقوة على اقصائها عبر حركة الاستلاب الحضاري التي قادها الاستعمار الغربي في كل انحاء العالم الإسلامي وكانت قضية التحرر من الاستعمار ومحاربة التغريب وتحرير كل الوطن الإسلامي واصلاح انظمة الحكم فيه وتحقيق الوحدة الاسلامية واستعادة الخلافة الاسلامية تمثل قضايا محورية في فكر البنا رحمه الله ومن هذا المنطلق المبدئي اعتنى الامام البنا بنقل حركته الى العالم كله وكان السودان في مقدمة اهتماماته لأن السودان يمثل بعدًا استراتيجيًا هامًا لمصر يفرضه الموقع الجغرافي والارتباط التاريخي الممتد بين البلدين منذ عهد الفراعنة كما أن مصر إبان بروز حركة الإخوان المسلمين فيها كانت تستعمر السودان على خلفية الفتح التركي الذي قاده محمد علي باشا في منتصف القرن التاسع عشر كما إنها كانت شريكًا لبريطانيا في حكم السودان فيما سُمِّي في التاريخ السوداني بالحكم الثنائي وقد جعل هذا الوضع السودان جزءًا من الدولة المصرية حتى عهد فاروق يمهر قراراته السياسية ب«نحن فاروق ملك مصر والسودان» وقد نشأت في السودان حركة سودانية مدعومة من مصر تنادي بفكرة الاتحاد مع مصر بدلاً من الاستقلال منها بدأت بحركة اللواء الأبيض في سنة 1924م ونشأ على أساسها حزب سياسي سوداني عريق فهذا الواقع أيضًا جعل حسن البنا رحمه الله يركز اهتمامه الكبير بالسودان وينادي بفكرة وحدة وادي النيل لكونها توافق الفكرة المحورية لحركته وبناء على كل ما سبق فإننا لا نشتط ولا نجافي الحقيقة عندما نؤكد أن نشأة حركة الإخوان المسلمين في السودان كانت لأول أمرها تحركًا مصريًا خالصًا قادته طليعة من كوادر الإخوان المسلمين في مصر انتدبهم الإمام حسن البنا لهذه المهمة على رأسهم فيما حكى الإخوان القدامى الأستاذ عبد الحكيم عابدين والأستاذ جمال الدين السنهوري وقد استطاعوا تكوين أول نواة سودانية بقيادة الأستاذ علي طالب الله رحمه الله وقد استغرق ذلك عقدًا كاملاً من أول الأربعينيات إلى آخرها من القرن الماضي وكانت خلية مزدوجة من سودانيين ومصريين مقيمين بالسودان في إطار بعثات إدارية رسمية سعت إلى بناء حراك شعبي في المجتمع السوداني على الأسس الفكرية والحركية لجماعة الإخوان المسلمين في مصر حركة التحرير: تكونت حركة اسلامية في نهاية الاربعينيات او مطلع الخمسينيات في اوساط الطلاب ابتدأت اولاً بمدرسة حنتوب ثم انتقلت الى جامعة الخرطوم وهذه الحركة وان تزامن تكوينها في الفترة التي تكونت فيها الخلية التنظيمية للاخوان لكن تشير كل الوقائع التاريخية الى انه لا توجد اي علاقة لها عند ظهورها بها فهي في الحقيقة حركة سودانية بحتة كونها مجموعة من الشباب الاسلامي على رأسهم الاستاذ بابكر كرار رحمه الله والاستاذ ميرغني النصري رحمه الله والدكتور ناصر السيد امد الله في ايامه وآخرون وقد كان دافعهم لتكوينها هورغبتهم الصادقة في التحرر من الهيمنة الاستعمارية الغربية والتي تقود حركة تغريب واقصاء للاسلام في السودان بخطط ماكرة وخبيثة عن طريق المؤسسات التعليمية لبناء جيل منبتّ الصلة بالثقافة الإسلامية ويتبع اسلوبًا هادئًا يتدسس لتنفيذ خططه تدسسًا ناعمًا. ويتجنب إثارة مشاعر المسلمين في السودان الذين استطاعوا عبر حركة ثورية قوية قادها الإمام محمد أحمد المهدي من هزيمتهم هزيمة نكراء وإقامة دولة إسلامية سودانية قطعت الطريق على الوجود الصليبي بالسودان الذي تحقق لهم في فترة الحكم التركي للسودان وأيضًا كان دافعهم من هذه الحركة التحرر من النفوذ المصري في السودان فقد كانت مصر شريكًا فاعلاً للاستعمار الإنجليزي ولها أطماع كبيرة في السودان وثرواته وأرضه وعندما شعرت بتنامي الاتجاهات الاستقلالية في السودان سعت إلى محاولة احتوائها عبر حراك سوداني يدعو إلى الاتحاد مع مصر والاستقلال عن بريطانيا ولتي تبدو في ظاهرها في مصلحة السودان بينما هي في حقيقتها في مصلحة مصر لأنها تضمن بقاء السودان تحت التاج المصري، وعلى العموم كان ذلك دافعًا قويًا لوجود حركة إسلامية تدعو الى التحرر من الاستعمار بكل أشكاله. وقد حاول بعض من كتبوا في تاريخ حركة الاخوان في السودان القول بأن حركة التحرير هي النواة الاولى التي تكونت منها حركة الاخوان في السودان متجاهلين الخلية التي ذكرناها آنفًا وهي محاولة في نظري لا تخلو من غرض فهما تكوينان لا صلة بينهما لاول تكونهما وان حدث التقاء بينهما لاحقًا لأسباب موضوعية والذي يجعلني جازمًا بهذا سببان منطقيان هما: اولاً/ التباعد التاريخي بينهما والتباين الظاهر في الفكرة المحورية لدى الحركتين اللتين وان التقتا في المرجعية الاسلامية فقد اختلفتا في النظرة لوحدة وادي النيل والتحرر من الهيمنة المصرية. ثانيا/ اللقاء الذي وقع في مرحلة لاحقة بين الحركتين لا يجعلهما حركة واحدة بل هو لقاء مرحلي دفعت اليه اوضاع اقتضاها الصراع مع القوى العلمانية التي كان يقودها الحزب الشيوعي ثم ما لبثت القوتان اللتان كونتا الحركتين ان اختلفتا عندما ظهرت الدعوة الى الاندماج في حركة الاخوان باعتبارها الحركة الاكبر التي تحظى بدعم تنظيم قوي في مصر هو حركة الاخوان المسلمين وابعدت المجموعة التي كونت حركة التحرير وكونت حزبًا مستقلاً هو الحزب الاشتراكي الاسلامي والذي من اسمه فقط يتضح التباين الفكري مع حركة الاخوان. وخلاصة الأمر أن هذا التباين في المكونات الأولى في نشأة حركة الإخوان المسلمين في السودان فإنه رغمًا عن خروج الرموز المؤسسة لحركة التحرير عن تنظيم الإخوان المسلمين إلا أن بعض الكوادر التي آثرت البقاء في تنظيم الإخوان المسلمين بعد 1954 م ظلت تستصحب الروح الاستقلالية عن حركة الإخوان المسلمين وتتجه لبناء كيان مستقل عنه كما حدث فيما عرف بالاتجاه الإسلامي ثم الكيان الذي انبثق عنه «الجبهة القومية الإسلامية»، والتي تطورت لاحقًا إلى تنظيمين هما المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي وكل ذلك في إطار ما عُرف بالحركة الإسلامية السودانية والتي نبين في الحلقة القادمة حقيقة أمرها بإذن الله تعالى.