عندما يطفو الزبد رابياً على سطح مياه البحار والأنهار فإنه يعبّر عن تراكم اللوثة وتشكلها لتصبح فقاقيع ذات لون مختلف عن لون الماء الصافي وسرعان ما يذهب مثل هذا الزبد فيكسحه التيار وتزول آثاره وتعود المياه إلى نقائها وطعمها النمير. والمجتمعات عبر التأريخ شمخت في زمانها رايات وسمت قيمًا ولكنها لم تخلُ من عناصر كان همها المقعد المقيم تنكيس تلك الرايات، وتشويه ما شرف المجتمع من قيم غير أن الحق عندما يظهر يتضاءل أمامه الباطل، ويخيب مسعى الذين يوالونه وعندها لا تسمع قولاً ولا ترى فعلاً لدعاته أمام صيحات الحق فلا تحس منهم من أحد ولا تسمع لهم ركزًا. والذين شدوا الرحال إلى العاصمة اليوغندية كمبالا مفضلين تنظيم لقاءاتهم تحت عباءة موسفيني ورحمته قد استبدلوا الخير بالتي هي أدنى فانحازوا إلى العدو ضد الأهل، وآثروا الاستعمار والذلة فضرب الله عليهم المسكنة، وكتب عليهم تحمل وزر الخيانة لوطن ملأوا منه البطون، وتربوا على عرصاته فإذا بهم يكتبون وثيقة مليئة بعبارات الخزي وشارات العار فيما سموه بالفجر الجديد، وهو في حقيقته ليس إلا ضلالاً متمكناً وعاراً تقشعر منه الأبدان وتشمئز لفرط نتانته النفوس. والسؤال الذي شغل العامة خلال الأيام الماضية يتمثل فيما كسى الوجوه من غضب جماهيري حول أسباب اجتماع أحزاب الشتات والموضوعات التي فصلوا فيها وكان محط الاستغراب والاستهجان يدور حول ماهية القواسم المشتركة لمن وقَّعوا على ذلك الميثاق الفاضح، ذلك لأن ما يسمى الجبهة الثورية التي تفتك بالمواطن، وتنهب ممتلكاته ومن تواثقوا معها هم ذات الذين يتمتعون بحرية القول والفعل بجميع منابر الرأي بدعوى حرصهم على وحدة البلاد وجهادهم من أجل استقرارها سعياً وراء التحول الديمقراطي والتنافس السياسي. ومهما يبرر الذين يرفعون عقيرتهم بأنهم لم يوقعوا تلك الوثيقة فإن الجرم الذي اقترفوه بالجلوس مع من يحمل السلاح، والاتفاق معه على مشروع أو حتى مسودة للنقاش فإن ذلك لا يعفيهم، ولا يلغي عن صفاتهم خصائص النفاق السياسي والخيانة التي أبرز ما يميّزها أن يحمل صاحبها وجهين بحيث يتحدَّث للشعب السوداني بوجه ومن يتآمر عليه بوجه قمئ آخر. وبما أن (الشينة) كما يقولون منكورة فإن بعض الذين تميل قلوبهم نحو مشاعر تدمير هذا الوطن والنيل من كرامة شعبه قد حاولوا تزيين ما فعلوه بأنهم مع الوطن وضد الوطني في إشارة إلى المؤتمر الوطني وهنا وجه آخر من وجوه الاستغراب. فالمؤتمر الوطني حزب سياسي له جماهيره، كما أن له برنامجاً قد ارتضى بموجبه أن ينافس داخل الملعب في كل مباراة سياسية وكان أولى بالذين يناصبونه العداء أن يواجهوه بمعاول السياسة، وقوة الطرح بدلاً من تعليق خيبتهم على ذلك المشجب ليتضرر الوطن وتتأذى مؤسساته وتحل قواته النظامية ومن ثم توزع السلطة السياسية بين اثنيات وجهويات وأحزاب لم يعد لها نصيرٌ. وخلاصة القول فإن السبب الجوهري الذي أدى بتلك الجماعات أن تفضل الهروب إلى يوغندا هو ضعف حيلتهم، وإفلاس عقيدتهم ودرجة الخيانة ذات التركيز العالي التي تجري في دماء قادتهم وقادة الذين ائتلفوا معهم. وقبل أن يجف مداد تلك الوثيقة العجيبة والشاذة تنكَّر لها أهلها وتبرأوا منها ذلك لأن الزبد الرابي والفقاقيع المليئة بالهواء لا تصمد في محيط هذا الوطن لأن مياهه هادرة لا تحتمل زبداً يطفو على سطحه. وعلى من يكتم روح الخيانة في قلبه أن يدرك أن الزبد مصيره أن يذهب جفاء ولا يبقى إلا ما ينفع الناس.