مثل جريان نهر النيل، في السودان تجربة دينية عميقة تجري منذ آلاف السنين في وجدانه. ولم تعلم الإنسانية بعد، إلى أي درجة أن بادية السودان السمراء ثَروْى أي (ثريّةَ) مزامير آل داؤود. مثلما أصبح السودان أرض الكسوة والمحمل، ومعبر الحجيج من غرب أفريقيا إلى الأراضي المقدسة في الحجاز، فقد كان في عهد أسبق معبر الحجيج من أثيوبيا إلى بيت المقدس. تجربة الصوفية المسيحية في الديَّارات أو (الأديرة)، تمَّت (سودنتها)، في (حديقة الروح)، في بادية السودان السمراء، في (المدن الصوفية الفاضلة) و(الخلاوي). قال ابن المعتز في شعر (الديًّارات) عن (دير المُطيرَة)... سقى المُطَيْرَة ذات الظلِّ والشجرِ... وديرَ عبدونَ هطّالٌ من المطر... يا طالما نبَّهتني للصبوحِ به... في ظلمةِ اللَّيلِ والعصفورُ لم يَطرِ... أصواتُ رهبان ديرٍ في صلاتِهمُ... سودُ المدّارعِ نعَّارين في السَّحَرِ... مُزَنِّرِينَ على الأوساطِ... قد جعلوا على الرؤوسِ أكاليلاً من الشَّعَرِ. هذه طبق الأصل صورة العابدين... يربطون على وسطهم (كرّاب) الصوفية.. يقيمون الليل.. يُصَلُّون في عمق الأسحار.. يبكون.. أرواحهم هائمة في الملأ الأعلى.. يلبسون الأخضر.. تيمُّناً بكساء الكعبة الشريفة الذي كان أخضراً... قبل تحويل كسائها إلى الأسود... وقد أرسلوا شعورهم على رؤوسهم.. تأسِّياً بالسِّيرة الصالحة.. أو حلقوها زهداً.. يتجافى عن أطياف النرجسية وأشباح (الفلهمة) وأوهام وعبادة الذات.. يضعون جبال تكبُّرهم تحت أودية تواضعهم. صورة رهبان (دير المطيرة) هي صورة (نعم القاموا بليلهم ركع داوي تهليلهم).. هؤلاء الذاكرون الله كثيراً والذاكرات. هؤلاء الأصفياء الذين جعلوا من كوكب الأرض عندما تشاهده من السماء، مسجداً بيضاوياً كبيراً يسبح في الفضاء. من أنوار خلاوي (خُرسي) انبثقت ومضة في الخرطوم، إذ جاء (شيخ الزين) إلى (الحتانة) في أمدرمان ثم إلى(المنشية) بالخرطوم، إماماً لمسجد (سيدة سنهوري) على شارع السّتين، ليجذب الآلاف بتلاوته الخاشعة. حيث في رمضان يصلّي وراءه الآلاف، ليس في التراويح فحسب، بل في صلاة التهجد، بعضهم جاء من أم درمان الثورة أو الكلاكلة أو الصّبابي (بحري)، وغيرها. تلك النمّة الجميلة الجاذبة التي ينصت لها الخاشعون في تلاوة (شيخ الزين) في مسجد سيد سنهوري، جزء من تراث سوداني صوتي يسبح في أثير السودان منذ آلاف السنين. هذا التراث الصوتي العظيم ظلّ لآلاف السنين وإلى اليوم شفهيَّاً غير مكتوب. لماذا لا يوجد اهتمام بكتابة ذلك التراث وتدوينه و(تنويته). ولمعرفتي بحبّه للخلاوي وشيوخ القرآن قلت لصديقي الطاهر علي الطاهر (مهندس) الذي له علاقة حميمة بالشيخ الزين، لقد عملت عملاً كبير النفع باستقدام شيخ الزين إلى هذا المسجد فأجاب الطاهر بصدقه أنا لم آتِ بشيخ الزين إلى هذا المسجد، لقد جاء به سعود البرير. قلت للطاهر من أين تعلّم شيخ الزين هذا النمّة المميزة في تلاوة القرآن، فأجاب تعلّمها من شيخ حسين، وهو إمام مسجد في الأبيض عندما يؤم الصلاة يبكي وراءه الخاشعون. فسألت ومن أين لشيخ حسين بهذه النمّة الجاذبة في تلاوة القرآن؟ قال الطاهر شيخ حسين حفظ القرآن في خلاوي (خرسي) قرب الأبيض وهي نفس الخلاوي التي حفظ بها شيخ الزين. وبعد أن أكمل شيخ حسين حفظه ذهب إلى خلاوي (ود الفادني) في الجزيرة بالقرب من الحصاحيصا حيث التقي هناك ب (ود القراعة) فأخذ عنه تلك النمّة الجميلة الجاذبة في تلاوة القرآن. (ود القراعة) اسمه بالكامل (محمد حسن حرَّان) وهو عابدٌ متواضع خافض الجناح، من عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً. وقد انتقل ود القراعة إلى جوار ربه، وتوجد له تسجيلات صوتية في مسيد ود الفادني، كما أفاد شيخ خلاوي ود الفادني. كما أن له تسجيلات صوتية كذلك في الإذاعة السودانية، كما أفاد ابنه. هل تتكرَّم الإذاعة والتلفزيون ببثها؟. سألت الطاهر ومن أين جاء (ود القراعة) بهذه النمّة الجميلة في التلاوة، قال: جاء بها من خلاوي ود أب صالح في شرق النيل. جاء ود القراعة من خلاوي (ود أب صالح) إلى خلاوي (ود الفادني) وجاء شيخ حسين من خلاوي (خرسي) إلى (ود الفادني) وهناك التقيا، ليأخذ شيخ حسين النمّة المميّزة من (ود القراعة) ثم لتنتقل منه إلى شيخ الزين. قال شيخ حسين بتواضعه ضاحكاً ومعجباً بتلميذه الزين محمد أحمد (شيخ الزين) إن الزين أضاف وطوَّر هذه النمّة. يبقى السؤال من أين جاءت خلاوي (ود أب صالح) بهذه النمّة الجذابة، التي يسبح في طيَّات أثيرها وجدان الآلاف، بكاءً وخشوعاً وطمأنينة؟. الإجابة على هذا السؤال تنقل الحديث إلى مجال آخر.