كتبنا مراراً أنَّ دولة الجنوب تحتضر ولكن عندما يصدر مثل قولنا هذا عن أكبر شاهد من أهلها فإنَّ حديثنا يصبح له معنى آخر ويقتضي التفاعل معه بصورة أخرى. المتحدِّث هذه المرة نائب رئيس دولة الجنوب رياك مشار الذي أدلى بحديثه هذا في مقر مجلس الوزراء بجوبا فقد حذَّر الرجل من انهيار دولة الجنوب وتقسيمها إلى دويلات صغيرة في حالة فشلها في إجراء مصالحة وطنيَّة بغرض تحقيق السلام بين مكوِّنات دولة الجنوب التي تئنُّ تحت وطأة الحروب والنزاعات القبليَّة والجوع والفقر والمرض. وطالب مشار بالتحرُّك (الآن) للحيلولة دون تجزئة الدولة بما يعني أن الأمر بلغ مبلغاً عظيماً من الخطر وأن السيل قد بلغ الزبى مما يستدعي التحرك الفوري (الآن) على حد تعبير الرجل الذي يحتل موقع الرجل الثاني في الدولة!. مشار مضى أكثر في كشف حقيقة ما يجري في الجنوب حيث (طالب الدولة بأخذ الحيطة والحذر تجاه الأوضاع الأمنيَّة والاجتماعيَّة المتردِّية محذِّراً من نشوب حروب دامية بين قبائل الجنوب الأساسيَّة) وقال: (يجب أن نترك أعيننا مفتوحة وذلك لأن عمليات القتل التي انتظمت كلاً من واراب وأعالي النيل والوحدة وجونقلي إضافة إلى النزاعات القبلية بين قبائل الدينكا والنوير والمورلي جعلت الدولة ليست وطناً لكل القبائل... لقد فقد الناس وطنيتهم وانتماءهم وأصبحوا يعيشون أعداء داخل دولة الجنوب)!! على حد تعبير مشار!!. بربِّكم هل قلنا أكثر مما قال مشار الرجل الثاني في دولة الجنوب وهل من اعتراف بأن الدولة التي تشنُّ الحرب على السودان وتدعم المتمردين على سلطان دولتنا وتتآمر علينا... هل من اعتراف بأن هذه الدولة تعيش في بيت من الزجاج بل في بيت عنكبوت لا يقوَى حتى على الصمود في وجه الهواء أو النسيم العليل أكبر مما صرَّح به مشار؟. من قال هذا الكلام ينتمي إلى قبيلة النوير التي تنافس قبيلة جون قرنق وسلفا كير والتي تسيطر على الجيش الشعبي وعلى الحركة الشعبية وأعني بها قبيلة الدينكا التي تُذيق القبائل الأخرى صنوفاً من القهر والتنكيل والاستعباد. مشار أشار إلى أربع ولايات يحتدم فيها القتال لكن الحقيقة هي أن الصراع يعم كل الجنوب خاصَّة الولايات الاستوائيَّة والعاصمة جوبا التي يسعى الدينكا والجيش الشعبي إلى احتلالها وإخراج أهلها الاستوائيين منها. لستُ في حاجة إلى التذكير بأنَّ كل الصراعات السياسيَّة التي طالت الجنوب طوال تاريخه كانت ذات جذور قبليَّة إثنية سيَّما وأنَّ الدينكا كانوا يمارسون تجارة الرقيق ويُخضعون كثيراً من القبائل الأخرى للاسترقاق والاستعباد وكما ذكرتُ في السابق فإنَّ تعديل نميري لاتفاقية أديس أبابا التي كان قد وقَّعها مع جوزيف لاقو عام (1972م) تم بطلب من لاقو بعد أن ضجَّ الجنوب بالشكوى من هيمنة الدينكا الذين انتهزوا فرصة توحيد الجنوب بموجب الاتفاقيَّة ليُخضعوه ويُذيقوه من القهر ما لم يشهده في تاريخه الطويل. العجيب أن قائد تمرد الأنيانيا جوزيف لاقو وهو من قبيلة (المادي) الاستوائيَّة يُذكِّر الناس هذه الأيام من داخل مدينة جوبا بما جرى خلال فترة السبعينات من القرن الماضي ولسان حاله يقول: (ما أشبه الليلة بالبارحة!!) فقد والله وصلتني أخبار الرجل الذي يتحدَّث هذه الأيام بمرارة شديدة عن كيف تبخَّرت أحلامُهم وكيف يُعيد التاريخ نفسه وكيف أحال قادة (الاستقلال) الجنوب إلى مسخ مُشوَّه من القبائل المتناحرة التي تئنُّ تحت وطأة الجوع والمسغبة والجهل والمرض بينما الموت يُخيِّم على رؤوس الجميع فمَن لم يقتله الجوع يفتك به سلاح عصابات الدينكا والجيش الشعبي وعصابات الجريمة المنظَّمة وغير المنظَّمة التي أحالت جوباوالجنوب إلى غابة!! اقرأوا من فضلكم هذا الخبر... فقد أعلنت حكومة الجنوب عن وجود حالة مجاعة ببعض ولايات البلاد أدت إلى وفاة (11) شخصاً بشرق الإستوائية الأسبوع الماضي فيما تواجه ولايات شمال بحر الغزال، واراب والبحيرات وجونقلي نقصاً حاداً في الغذاء يُنذر بكارثة وشيكة قد تشمل بقيَّة الولايات. وزير الشؤون الإنسانيَّة وإدارة الكوارث جوزيف لوال اشويل أوضح في مؤتمر صحفي مشترك عقده يوم الجمعة مع محافظ كبويتا أن البلاد في حاجة إلى «1.2» مليار دولار لتوفير الغذاء لإنقاذ الوضع الكارثي مشيراً إلى أن هناك ضعفاً في استجابة المنظمات الدولية للنداء رغم إلمامهم بخطورة الموقف الإنساني منذ يوليو الماضي وتحدَّث الوزير عن عقبات تواجه المنظمات في توصيل المساعدات تتمثل في وعورة الطرق وعدم وجود الجسور المؤدِّية إلى تلك المناطق!! بالله عليكم تخيَّلوا حال حكومة يموت شعبُها من الجوع والقهر لكنها رغم ذلك تعتبر أولويتها القصوى دعم عملائها في قطاع الشمال بالسلاح والمال وشنّ الحرب على السودان وتحريك جيشها الشعبي نحو الأرض السودانيَّة في جنوب كردفان!! جنرالات الجيش الشعبي من أبناء الدينكا هم الذين يحكمون الجنوب اليوم ولا يملك سلفا كير أن يفرض إرادته عليهم ولا يستطيع كما قالت المصادر الاستخبارية الأجنبية أن يفكّ الارتباط مع قطاع الشمال أو ينفذ الاتفاقيات أو حتى يحدِّد أولويات الصرف على حكومته. ما قاله مشار يعكس عمق الأزمة في جنوب السودان ويُذكِّر بالحالة التي ساقته ولام أكول عام (1977م) إلى الانشقاق من الحركة الشعبية وقائدها قرنق بل إن الوضع الآن أسوأ بكثير مما كان عليه في تلك الأيام وكأنِّي بمشار يحاول أن يقدِّم المبرِّرات لخطوة قد يتَّخذها شبيهة بموقفه عام (1997). الذئب الحقير موسيفيني المتهم بقتل قرنق بالتواطؤ مع سلفا كير يسعد كثيراً إذا تفكَّكت دولة الجنوب وأصبحت تحت سيطرته بأكثر مما هي عليه الآن وكذلك الحال بالنسبة لكينيا التي تطمع في سوق الجنوب المرشح الآن لحرب أهلية لا تُبقي ولا تذر خاصَّة إذا وجد السلاح طريقه إلى القبائل الاستوائية التي أشعلت التمرد لأول مرة عام (1955)، فنار الثأر تشتعل في نفوس كثير من القبائل مثل المورلي الذين شنَّ الدينكا والنوير عليهم حروباً طاحنة وقتلوا منهم الآلاف بل والذين شنَّ سلفا كير نفسُه الحرب عليهم وهاجمهم واتَّهمهم بسرقة أطفال الدينكا. كل هذا كوم والكوم الآخر في حكومتنا التي كان بمقدورها أن تُفيد من هذه الأوضاع لاقتلاع الحركة الشعبيَّة ولكن لا حياة لمن تنادي فوالله إن حكومة الجنوب لا تحتاج إلى أكثر من دفرة صغيرة ولكن!