الأخ العزيز ياسر: والنفس تتقلب بين هذا وذاك وتشتهي الدنيا وتسعى لها وتشتهي الآخرة وتستكين.. وعيوننا تنظر هنالك عند المعسكرات إلى الرجال وهم يشدون الرحيل نحو أرض (اللحاق) وبين ناظرهم الجنان والحسان، بينما تشدنا نحوها أرض (النفاق).. وأرواحنا تتعلق بالدنيا ونحن ننظر إلى إخواننا وهم يثقفون قناتهم ويعدون زادهم بينما نعد نحن حقائب سفرنا إلى أرض الله.. أخي ياسر هم يسافرون إلى الله ونحن نسافر إلى أرض الله.. إننا أيضاً نجاهد لنطعم أبناءنا من حلال.. هل تذكر حين دعانا أحد إخوتنا لنلحق به عند ملك لا يُظلم عنده أحد، هنالك حيث الشارع يحكم بشرع الله فلا تبرج ولا سفور.. أرض يعمل شعبها لخدمة الدين ولا يجعلون الدين يخدمهم إلا للوصول لله.. وإن تراكمت علينا هموم الدنيا وكدرها نذهب نغسلها هنالك عند بيت الله الحرام. أخي ياسر أعصاب الروح تتمزق والحنين يرقص على أعتاب القلب المجروح.. والأهل والأحباب والنيل والطرقات تظل تلوح أمام ناظرنا.. ونحن نضع أقدامنا على أعتاب درج الطائرة.. وكلمة القصواء المكتوبة على مقدمة الطائرة تجعل الروح تصعد حتى لم نعد نسمع ضجيج الطائرة، لم نُعد نسمع إلا أصوات دواخلنا.. تلكم الأصوات واسم الطائرة (بالقصواء) تذكرنا بالمشروع الذي تم اغتياله.. وتسيل الدموع التي حاولت أن أخفيها وأنا أفارق (أم محمد) وأبنائها.. محمد الذي يعرف أن طريق الله كان عندما ينظر لأبيه يلبس ذلك (الأخضر) وهو يوصيه إن هو ذهب إلى الله أن يرفع رأسه ويكبِّر.. ها أنذا أفارقه وأنا متأنق مثل أبناء الخرطوم عند الملاهي.. الخرطوم التي تلفظنا مثل الغرباء؟ وما أصعب أن تكون غريبًا في وطنك.. وما أصعب أن تنظر إلى إخوانك الذين ضحوا بشبابهم ودمائهم من أجل بلدهم وهم الآن يوضعون على رفوف (الحاجة) كأنهم أحجار.. وبغاث الناس تجلس عند أعلى المناصب، ويا لهف قلبي على وطنٍ العميل فيه يُكرَّم والنبيل الشريف (يُسجن). وداخل الطائرة يستقبلنا (المضيف الجوي) أحمد وهو يخبرني أنه يعلم بسفرنا في هذه الرحلة من الأخ أحمد علي والاثنان من أيام (هجليج) ويسقط جسدنا على مقعد الطائرة، وهو مثقل بالحب والشوق، ولوعة الفراق تحرق دواخلنا وآلام الذكريات تجعلني أفكّر في مغادرة الطائرة وأعود هرولة أتوسد صدر (بلدي).. لكن: تفارقنا حالة الأحلام تلك والآهات تتشبث بالأجفان لا تبارح حتى تغسلها دموع تشعل خدودنا بحرارتها.. وفتاة تمد لنا «منديلاً» وهي تسأل هل هي أول مرة تغادر فيها السودان؟؟ أهز رأسي بالنفي، وأحدث نفسي أنا أغادر مشروع وطن جميل، أغادر أجمل ناس.. تدعو لي: ربنا يجيبك للسودان سالم.. تدير الفتاة جهاز الموسيقا، وأغنية بصوت محمود رحمه الله (الودعو ارتحلو).. تعانق الأذن.. نطلب منها أن تغلق الموسيقا.. تضع السماعات على أذنها وهي تنظر لنا بشفقة.. وكل يغني على هواه، وهوى نفسي السودان.. وأشيح بناظري عنها إلى نافذة الطائرة وهنالك تطل عمارة (جبهة الدستور الإسلامي) التي تقع شرق المطار وكأنى بالشيوخ داخلها مجتمعين يخططون ويديرون أخطر مشروع سوداني ولا يحسّ بهم أحد.. عذراً شيخ صادق عبد الله، إننا لا نملك همتك ولم يعد عندنا حسن ظن أن تطبق هذه الحكومة دستورًا إسلاميًا إلا عبر (الأسير). أخي ياسر آه آه من تلكم الأيام.. مضى العمر والحلم يتحطم أمامنا ويتناثر، والحكومة تضل الطريق إلى الله.. ونخشى أن ندخل معها جحر الضب. الأخ ياسر خضر: أعلم أن بعض سهام كلماتي تصيب بدواخلك مكامن عشق قديم متجدِّد، وأعلم أن هنالك وعداً بينك وبين الأخ مصطفى ميرغني المزمل وعداً أتمنى من الله أن يحققه لك ولنا، (لكن) بعض دروب الحياة قد تقودك إلى أن تفارق طريق من تحب لبعض الوقت وقد تجبرك حيناً آخر على الرحيل المر، فقط تبقى النوايا الصادقة هي من تقودنا إلى الله.. والله وحده يعلم ذلك.. فألحق بنا أخي عسى أن نعود يوماً إلى ذلك الدرب ولعل الله يُريد أن يختبر صدقنا، فهو القائل (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ). وعسى أن يكون في سفرنا هذا اختبار نفوسنا على الصبر ونسأل الله ألا يبتلينا.. فلقد كان: بن عياض رحمه الله، إذا قرأ هذه الآية بكى، وقال: اللهم لا تبتلينا فإنك إذا بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا.. فنسأل الله أن يسترنا ولا يفضحنا ونسأله أن يردنا إليه ردًا جميلاً ونسأله أن يعفو عني في التقصير وأن يجعلنا من الذين قال فيهم: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) «الحجر: 47». والسلام عليكم أخي الكريم.. أخي ياسر من المخطئ شركة (dtk) أم الحكومة التي سمحت لها بالعمل.. حمداً لله أن نصركم عليهم.. وأسألك يا الله يا جبار السماوات والأرض أن تقصم ظهور من يسعون لفساد المسلمين وكل من عاونهم وسهل لهم، بقوتك يا من يجيب المضطر إذا دعاه.