ليعذرني الأخ وزير الثقافة في ولاية النيل الأبيض أن ضعُف بصري عن رؤية المشهد الثقافي في الولاية، فعدسات هذا الزمان غد عتمت علينا فما عدنا نرى من واقع هذا الزمان الكثير فتعلقنا بماضي أيامنا، ولعل ضعف ووهن الترابط قد أصاب هذا الجيل بالكساح الثقافي، وأصل غرابتي مرجعه لأن هذا الفهم لا يجوز على النيل الأبيض إن جاز على غيرها، ومقام حجتي في هذا أننا الحجر الذي نشأت فيه المهدية فأنشأت هذا الحراك السياسي والثقافي الذي يموج ويتشكل حتى هذا اليوم وكل السودان يتمحور حوله من أدب وثقافة وإدارة، وما زالت المباحث الثقافية تمور ثراء فكرياً متجدداً عن المهدية وأدبيات أيامها ومساجلاتها وغزواتها وفتوحاتها وما صاحب ذلك من مديح وتدوين وإطراء.. وانتقل الزمان فانتقل معه النيل الأبيض للمساهمة في العهد الوطني فجاء إسماعيل عبد المعين وليس مصادفة أن يبدأ من كوستي وهو إن لم يكن من أول المساهمين في إثراء المكتبة السودانية الموسيقية فهو لا شك أول من أضاف الميلودي اللحني المصاحب للكلام ونشأت على أيامه في الرديف والملكية وخور أجول وغيرها مجمعات عمال تلاقحت ثقافاتها فكان إيقاع التم تم الذي بدأ من قرية الملكية جوار الفشاشوية والأمر كذلك فإذا بالإسهام الجريء وهو كذلك على أيامه وهو خروج المغنية آمنة خير الله بت ود الزاكي وهي من عُرفت لاحقاً بمنى الخير وهي ثانية مغنيات السودان ثراءً وإسهاماً بعد الفلاتية، ثم ترمي كوستي بسهم جديد وإضافة لونية جديدة على السودان وهي غناء الجاز الذي بدأ فيه بشير عبدالعال أول فرقة موسيقية خارج الخرطوم، وغنت كوستي على أيام عبد الرحمن نور الدين وذو النون ومحمد عبد الرحمن أغاني «ما صنت المودة ولا راعيت ودادي» و«حبيبي عواطفي سلمتها ليك». وعزف لهم جيل من العازفين حريري وود الريف ومركز والنور عبد المتعال وعميد العازفين «إبراهيم الجاك» ولمع في هذه الأثناء نجم شغل السودان بأغنياته فغنت له ثنائي النغم على أيامها «ما اتغيرت وما اتنكرت ليك» وكثير من مكتبة الإذاعة وهو الشاعر حسن آرت الذي لازمه الأخ الفنان أحمد يحيى ملازمة الجن لكنز، وحسن آرت قيمة عند كل أهل الثقافة، وإذا دلفنا للثقافة والشعر والتحليل وجدنا عيسى الحلو يقف على رأس نقاد هذا البلد وهو ابن السيد محمد أحمد الخليفة علي ود حلو وأمه بنت العمدة عيسى أحمد جفون، ثم الأستاذ الضخم إبراهيم أحمد عبد الكريم، والإعلامي المرحوم يس عبد النور والصحفي طه النعمان، وأضافت منارة بخت الرضا والتي ما سودت الأحبار قرطاسًا إلا بمدادها لكل السودان لوناً وطعماً، وجاءت الدويم بالمرحوم محمد أحمد محجوب أديباً وشاعراً وسياسياً، ولا أنسى في خلاصة هذا الحديث الدكتور الموسيقار ماهر تاج السر وسلطان الكلمات عثمان محيي الدين فهما امتداد طبيعي لما تفعله كوستي بالموسيقى السودانية والذي هو حفي بأن يكون موضوع دراسة واهتمام. ولأن المديح باب عرفه كل أهل السودان أساساً لثقافة الغناء ورافداً ثقافياً وسابقاً في الأدب وأحد دلالات التصوف وعلم التربية فقد خصنا الله فيه بسيدي وشيخي وحبيبي وأستاذي عبد الله أحمد عثمان الحبر أمد الله في أيامه وهو حفيد الشيخ أبو قرون وابن عمته سعد الشيخ موسى والمهندس لطريق الحبيب الأستاذ الجيلي الشيخ وأولاد مطر وحديث يطول عن أم جر والكريدة والمادح موسى ومداح الشيخ محمد أحمد وكثير من مداح ورواة المديح في شمال بحر أبيض الشيخ أبو كساوي ومداح الحسانية والشيخ الصديق ود بساطي والشيخ موسى الأغبش والشيخ عبد السلام محمد علي ومكرمة مادح السيد عبد الرحمن وأشعار عبد الله محمد يونس والمرجع العجيب الأستاذ محمد إسماعيل الأمير محمد عثمان أبو قرجة الذي هاجر للخرطوم وأصبح شيئاً في زهور الزينة وهو أحد أكبر منارات بحر أبيض ثقافة. والشيخ عوض الله والشيخ برير اللذين تتلمذ عليهما كل ناس دار الريح من المشايخ بداية بالشيخ محمد وقيع الله والشيخ محمد صالح والشيخ المجذوب وأدبهم في ذلك كثير. أخي عبد الماجد أنا والله أخشى أن نقف يوماً نؤبن رجلاً كان في إمكاننا محاورته فنسأل عنه من لا يعرفه كما يعرف هو جهده وعمله، ونحن ولاية جمعت أدب الجراري والدلوكة والجابودي والكمبلا وتميزنا عليهم بالتم تم وزدنا عليهم ورفعنا صوتنا عليهم بالمديح. أخي الوزير ليس هنالك مبرر يحول دون أن تكون أشهر وأنجح من جلس على كرسي ثقافة في تاريخ السودان إلا الاعتذار بالإمكانات، وهذا عذر الكسيح ولا أظنك كذلك، وإن كنت لا أعرفك سيدي فهذا سهمي أرمي به أمامك فإن كان لك رغبة في الإسهام فنحن حضور لهذا الأمر ولله الأمر من قبل ومن بعد.