لم نسمع من دولة الجنوب حتى هذه اللحظة، تأكيدات مغلَّظة حول بدء سحب قواتها من المنطقة المنزوعة السلاح مسافة عشرة كيلومترات من الحدود المشتركة وقد تزيد لعشرين كيلو مترًا في كل جانب، كما فعلنا نحن على حد قول السيد وزير الدفاع الذي صرَّح في مطار الخرطوم أول من أمس وهو عائد من العاصمة الإثيوبية أديس أبابا بعد توقيع المصفوفة الأمنية.. حيث أعلن عن بدء انسحاب الجيش من الحدود على طول الحدود المشتركة التي تبلغ «2175» كيلومتراً.. وعجيب أمر 14 ميل، فقد كانت كما قال السيد وزير الدفاع عقبة أمام الجولات السابقة، لكن الحديث عنها في هذه الجولة والمصفوفة يظل فيه نوع من الغموض، فهي اعتُبرت ضمن المنطقة المنزوعة السلاح ويتم سحب الجيشين منها، لكن تبعيتها لم تُحسم بعد، وما قيل إنها منطقة للتلاقي والتعاون بين المواطنين، فهو تعبير غير دقيق ويحمل دلالات ليست مُريحة على الإطلاق، فلا يمكن لمنطقة فيها تنازع بهذا الشكل تعطل الجولات السابقة يُحسم أمرُها بعبارات رومانسيَّة حالمة لا وجود لها في التعاملات الدوليَّة وفضّ المنازعات... وهذا يُنذر بخطر كبير إذا تُركت ترتيبات أمرها غير مكتوبة وموثقة ومحدَّدة وقاطعة.. يجب أن يكون التفاؤل بشأن الاتفاقيات والمصفوفات تفاؤلاً متبادلاً والرغبة مشتركة، فإذا كانت ترتيبات المصفوفة الأمنية وتنفيذها سيستمر حسب الجداول والتوقيتات المتفق عليها، فإن ضربة البداية لا بد أن تكون متزامنة وفورية، ونحن نتوقَّع من دولة الجنوب كل شيء... فهي تماطل وتتلكأ منذ التوقيع الأول في سبتمبر من العام الماضي... ولن نفجأ غداً بتبريرات من حكومة جوبا بوجود عقبات عملياتيَّة ولوجستيَّة تحُول دون الانسحاب الكامل والظروف البيئية وربما الخريف الذي هو على الأبواب بعد شهر ونصف في الجنوب... كلها ستكون جزءًا من تعطيلات الانسحاب والتطبيق الفوري للمصفوفة.. وستكون حكومتُنا كريمة لطيفة كما عهدناها ستقبل كل تبريرات جوبا وتقبل بما يُقال.. ونكرِّر القول إن العبرة ليست في التوقيع على المصفوفة وتجاوز نقاط خلاف أساسيَّة والاندفاع بقوة في تطبيع العلاقة بين البلدين، العبرة في قوة الالتزام وما يؤكده وظهور بوادر مشجِّعة تحفِّز على المضي قدماً في اتجاه التنفيذ الكامل لهذه الاتفاقيَّة.. والمخيف حقاً أن هناك حديثًا قليلاً يُعطى ب «القطَّارة» حول فكّ الارتباط ووقف الدعم للحركات المتمردة في دارفور وقوات ما يسمى بالجبهة الثوريَّة، فالمصفوفة تشتمل على هذا في متنها ونصوصها، لكن لماذا تركِّز التصريحات كلها على قضية الانسحاب والمنطقة المنزوعة السلاح؟، فتأجيل الحسم النهائي لفكّ الارتباط بين دولة الجنوب والحركة الشعبية قطاع الشمال والفرقتين التاسعة والعاشرة من الجيش الشعبي، أمرٌ يُثير القلق فبدون حسم هذه الجوانب المهمَّة تُصبح المصفوفة لا قيمة لها، لأن الوضع سيكون قائماً ولن نستطيع لا نحن ولا فرق المراقبة الإفريقية والمشتركة تشديد الرقابة وضبط كل هذه الحدود المشتركة الطويلة.. لمنع تدفُّق السلاح والمساعدات والدعم لقطاع الشمال وقوات الجيش الشعبي التي تقاتل في جنوب كردفان والنيل الأزرق.. المطلوب من الحكومة أن تتعامل بحذر كامل، حكومة الجنوب تنظر للسودان وستستمر تنظر إليه كعدو إستراتيجي وليس جارًا قريبًا تتعامل معه وتغلِّب المنافع والمصالح، فعقليَّة الحركة الشعبيَّة الحاكمة هناك عقلية تآمريَّة ليس فيها فُسحة تتنامى فيها روح التعاون والالتقاء كما نقول نحن ونتمنَّى.. إذا كانت تقديرات الحكومة مبنيَّة على ضرورات إيجاد صيغة وأرضيَّة قويَّة لحسن الجوار وتجاوز الخلافات وعبور الجسور إلى ضفاف التعاون البنّاء والمثمر، فلتكن الشواهد حاضرة والثقة موفورة والبيان بالعمل!