شهد السودان قبيل استقلاله تمرد توريت في أغسطس عام «1955م» وعلي مدى خمسين عاماً ظل الجنوب في حالة تمرد واقتتال مع الشمال باستثناء أحد عشر عاماً توقفت فيها الحرب بعد توقيع اتفاقية أديس أببا في شهر مارس عام 1972م وانطلقت شرارة التمرد واندلعت ناره مرة أخرى في منتصف عام 1983م ولم تتوقف الحرب بين الشمال والجنوب إلا في عام 2005م بعد توقيع اتفاقية نيفاشا التي خلقت بؤراً ملتهبة جديدة في ما يُعرف بالمناطق الثلاث التي تقع في الشمال إضافة لحركات التمرد المسلحة في دارفور. وفي الماضي كانت المشكلة تُعرف بمشكلة الجنوب ولكنهم ابتدعوا برنامجاً جديداً أطلقوا عليه اسم السودان الجديد وارادوا من خلاله فرض سيطرتهم على الشمال والجنوب على حد سواء. وإن الفترة الانتقالية التي أعقبت توقيع اتفاقية نيفاشا وامتدت حتى عام 2011م كانت كفيلة بحل كل القضايا والملفات العالقة وحسمها حسماً جذرياً قبل إجراء الاستفتاء ولكن الجانب الشمالي كان متهاوناً ومتراخياً إذ أنه بطوعه قد وافق على خروج القوات المسلحة الباسلة من الجنوب قبل أن يتأكد لهم فك الارتباط بين الفرقتين التاسعة والعاشرة وبين القيادة العامة لجيش الحركة الشعبية بالجنوب ودمج هاتين الفرقتين في القوات المسلحة الباسلة مع إيجاد بدائل أخرى للذين لا يتم استيعابهم لعدم استيفائهم للشروط المطلوبة مع حسم كل القضايا الأخرى المتعلقة بالحدود والديون الخارجية وحقوق السودان في النفط الجنوبي لقاء تصديره عبر مصافيه وأنايبه وبقية الملفات.....الخ وانهمك الجنوبيون في الاستعداد لقيام دولتهم واتفقوا بالإجماع تقريباً على الانفصال بينما أضاع البعض هنا وقت البلاد والعباد في الحديث عن الوحدة الجاذبة «ودفقوا ماءهم على الرهاب» ونتج عن ذلك بقاء كثير من القضايا عالقة. والآن توجد دولتان كل منهما قائمة بذاتها ويربطهما جوار جغرافي لا فكاك منه حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وكان الجميع يأملون في جوار آمن يتبعه تعاون وتبادل للمنافع. وقد أدرك الجنوبيون مؤخراً بعد المعاناة الأليمة التي يعيشون فيها ونقص الغذاء وندرته وارتفاع أسعاره أدركوا أنهم لا يمكن أن يعتمدوا على دول الجوار الإفريقي المتاخمة لهم فهي لن تمدهم بغذاء أو كساء أو أي معينات حياتية أخرى بل إن بعضها ثبت أنه يستنزف موارد الجنوب بتوريد الخمور وغيرها من الموبقات إليه وأدركوا ألا مناص في المديين القصير والطويل إلا بالاعتماد على الشمال الذي يمدهم بالذرة والغلال والمواد الغذائية والبضائع الأخرى ولعل «الزنقة» التي مرت بهم أدت لعودة الوعي لقواعدهم قبل نخبهم ولعل هذا يؤدي لتشكيل رأي عام غالب هناك. ومنذ اليوم الأول الذي أعلن فيه رسمياً قيام دولتهم ورفع علمها كان خطابهم الرسمي يستبطن العداء والتحرش بالشمال عن طريق المتمردين والحاملين للسلاح من بنيه ولسان حالهم يردد «العينسيد دقها بجلدها» وتحت رعاية وتمويل القوى الأجنبية الخبيثة الممولة بسخاء لكل عمل ضد السودان أقاموا تجمع كاودا والجبهة الثورية وبالتنسيق مع المعارضة الضعيفة المتهالكة في الداخل تمخض جبلهم وولد فأراً تمثل في ما أطلقوا عليه «الفجر الجديد» الذي أضحوا بسببه أضحوكة وسط الرأي العام وبسببهم ظلت مفاوضات أديس أببا بين وفدي الدولتين كصخرة سيزيف ترتفع ثم تتدحرج للقاع مرة أخرى. وإن العمود الفقري لاقتصاد دولة الجنوب ولخزينتها العامة هو النفط وعندما توقف تصديره تضرروا كثيراً وان الطرفين قد تضررا ولكن الجنوب قد تضرر أكثر لأن للسودان رغم معاناته مصادر وموارد أخرى. وقد أُصيبت الدول الغربية القائمة بأمر الوصاية علي دولة الجنوب بالقلق وخافوا أن يحدث انهيار اقتصادي تام في تلك الدولة الوليدة الجديدة وأعلنوا أنهم سيقيمون مؤتمراً للمانحين لدعم دولة الجنوب ولعل هذه الفرقعات الإعلامية لم يكن متوقعاً أن يعقبها إلا تقديم بعض المؤن الغذائية وربما يكون بعضها تالفاً أو مسرطناً مع تقديم مساعدات عسكرية واعتبارها ديوناً ربما تصبح في المستقبل ديوناً مركبة متراكمة خصماً على مخزون الجنوب من النفط!! والتجارب السابقة والشواهد العالمية الدالة على ذلك كثيرة ومهما يكن فإن تصدير النفط الجنوبي عن طريق مصافي وأنابيب السودان فيه فائدة للطرفين إذا صدق كل طرف والتزم بما يليه من التزامات ولكن ان أي اخلال بالمصفوفة الأمنية قد يؤدي لنسف هذا الاتفاق من جذوره وان مصلحة البلدين تقتضي فك الارتباط بين قطاع الشمال وبين دولة الجنوب وهذا الارتباط الخبيث هو أس المشكلات بين البلدين. وليس أمام هذا القطاع إذا أراد أن يمارس العمل السياسي إلا أن يخضع للدستور والقانون ويلتزم بالعمل السلمي ويسجل تنظيمه كسائر الأحزاب والتنظيمات الأخرى أما إذا كان يدرك أن وزنه الشعبي خفيف ولا يمكنه من الحصول على أغلبية في وحدة إدارية واحدة أو محلية «محافظة» وفضل أن يكون مخلب قط مسموم وأداة طيعة تؤدي الأدوار القذرة للقوى الأجنبية المعادية للسودان فهذا يؤدي لأن تكون التوترات قائمة بين الشمال والجنوب وثمة ملاحظة وهي أن الجنوبيين يتحفظون في تصريحاتهم عقب التوقيع على أي اتفاقية ويكونوا متريثين أكثر وأذكر أن الأستاذ الراحل حسن ساتي كتب في سبعينيات القرن الماضي سلسلة من التحقيقات والمقابلات بعد عودته من الجنوب الذي أمضى فيه عدة أسابيع ومن واقع تجربته هناك ردد عبارة ما زالت تختزنها الذاكرة وهي علي حد تعبيره «انك لا تستطيع أن تنفذ بسهولة لما يدور في عقل ونفس الإفريقي ولا تستطيع أن تعرف مشاعره الحقيقية تجاهك» ووفقاً لما ذكره الراحل الأستاذ ساتي فإن الجنوبيين يتحفظون في إبداء مشاعرهم بعد توقيع أي اتفاق بينما يُحدث بعضنا هنا فورة أندروسية وانفعالاً حماسياً قبل أن تستوي الأمور تماماً على جبل الجودي. وإننا نأمل أن يعم السلام ويتبعه تعاون مشترك شريطة أن يكون ذلك على أرض صلبة لأن أي بناء لا يمكن أن يصمد على أرض هشة والتريث والتؤدة مطلوبة لتسير الأمور بثبات منذ البداية وثقة حتى النهاية «وخفة الراس» مرفوضة.