يبدو أن تحذيرات الخبراء الاقتصاديين ذهبت أدراج الرياح التي طالبت دومًا بضروة اتخاذ التدابير اللازمة للحد من تدهور سعر الصرف وارتفاع الدولار مقابل العملة المحلية، وأمس الأول بلغ سعر الودلار بالسوق الموازي 4.800 جنيه مما يدعوا إلى دق ناقوس الخطر والتحذير من مآلات أوضاع النقد الأجنبي بالبلاد، وقبل عدة سنوات اتخذ بنك السودان المركزي قراراً بأن يكون سعر الدولار الحقيقي 2 جنيه وعمل على تطبيق ذلك، حيث قال د. صابر محافظ بنك السودان المركزي السابق إنه السعر الحقيقي والعادل للدولار، وإن زيادة السعر عن هذا الحد لا مبرّر لها.. وحينها كانت إيرادات السودان من العملات الحرة تكفي لاحتياجاته الأساسية، وهنالك احتياطي لا بأس به، يكفي السودان لستة أشهر، إذ كانت أسعار النفط قد حققت قفزة كبيرة في الأسواق العالمية وصلت إلى 140 دولاراًً للبرميل.. ولم يعد هنالك فارق كبير في سعر السوق الرسمي والسوق الموازي للدولار.. فالوفرة قد عالجت المشكلة. غير أنه، وبصورة مفاجئة بدأت الأنباء تتوالى عن انهيارات في البنوك الأمريكية بسبب الرهن العقاري، ثم استفحلت الأمور لتتحوّل إلى أزمة مالية بدأت في الاندياح لتشمل العالم الغربي كله ثم بقية دول العالم، ومع هذه الأزمة بدأت أسعار النفط في «الانهيار» حتى وصل سعر البرميل إلى أقل من 40 دولاراً، أي أن البرميل الواحد قد فقد «مائة دولار» من سعره دفعة واحدة.. هذا الوضع قد انعكس بدوره على السودان وعائداته من العملات الحرة وقدرته على تلبية كافة احتياجات الدولار من السوق الرسمي فبدا السوق الموازي في «الانتعاش» وبدأ السعر «الرسمي» للدولار في الارتفاع من جنيهين إلى 2,1 ثم 2,3 وهكذا.. غير أن الارتفاع في السوق الموازي قد كان كبيراً وجعل الفارق بين السعرين «جهنمياً» إذ وصل السعر في السوق الموازي إلى 3 ثم 3,1 ثم 3,4 وهكذا.. واتضحت عيوب الاعتماد على مصدر واحد «النفط» بنسبة كبيرة في الحصول على الموارد من العملات الحرة وعدم القدرة على زيادة الصادرات غير النفطية للمدى الذي يعطيها أهميتها العظمى التي تستحقها. جاءت بعد ذلك فترة ما قبل الاستفتاء وأعقبتها فترة ما بعد ظهور نتيجة الاستفتاء لصالح انفصال الجنوب، أي الفترة الانتقالية قبيل «9 يوليو»، فقد شهدت تلك الفترة ممارسات ذات طبيعة ضارة بالاقتصاد الوطني من قبَل أطراف رأت أن فرصتها قد حانت لتحقيق مكاسب أو «تجار الأزمات» الذين يستفيدون من «الظروف العامة» لتحقيق أرباح طائلة، فصار هنالك ما يشبه «الهلع» على الدولار، وصارت هنالك «مسارب خفية» يذهب إليها الدولار.. أعقب ذلك الفترة الحالية التي وصل فيها السعر الرسمي للدولار إلى 2,7 جنيه بينما وصل سعر الدولار في السوق الموازي إلى أكثر من 4 جنيهات ثم 4,2 ثم 4,4 ثم 4,8 مع القليل من التذبذب، وصارت هنالك «مافيات» تتحكم في السوق الموازي وتشيع «الهلع» وتجعل «المشهد» غير منطقي وغير واقعي. غني عن القول إن الحل الجذري لأزمة الفارق الكبير بين السعر الرسمي والسوق الموازي للدولار وما تسببه تلك الأزمة من ارتفاع في الأسعار وهلع بين المواطنين تكمُن في العمل على تحقيق «الوفرة» في مجال العملات الحرة بحيث إن كل طالب مبالغ من العملات الحرة بغرض السفر أو الاستيراد أو خلافه يمكن أن يحصل عليها من السوق الرسمي، عندها سيتراجع ذلك «اللا معقول» في مجال السوق الموازي وتنتهي الأزمة فعلياً. ولتحقيق الوفرة عن طريق زيادة الصادرات غير النفطية وفاقد عائدات النفط بعد الانفصال بزيادة الإنتاج النفطي، والحرص على دخول حصيلة الصادرات من العملات الحرة للجهاز المصرفي، ومكافحة التهريب والفساد وكل ما هو مخفي من ممارسات غير مرئية للعامة وغير ذلك من الإجراءات يبقى من الضروري اتخاذ تدابير أخرى وقتية لمجابهة الموقف ومن بين تلك التدابير إجراءات قانونية حازمة وتشريعات مؤقتة توقف هذا «العبث» وتحارب «المافيات»، وبالرغم من تطبيق سياسة التحرير إلا أنه من الضروري القفز في هذه الظروف فوق «شعارات التحرير» واللجوء «للضبط» ومفاهيم «المرن المدار» لمعالجة أزمة العملات الصعبة المستفحلة، ولضبط أسعار السلع المنفلتة. إن المواطن العادي يدفع ثمنًا غاليًا لأزمة ارتفاع أسعار الدولار في السوق الموازي ومن أجله لا بد أن تكون هنالك إجراءات حازمة لمواجهة الموقف وإلا فإن أسعار السلع «لن تهدأ» ولن يتراجع ارتفاعها.