كم يبدو مشوقًا لهواة متابعة تاريخ الفكر أن مريم جميلة، تبنت خطًا وخطابًا فكريًا محددًا واضحًا، حتى من قبل إسلامها، ثم ظلت ترابط وتثابر عليه، بعد أن أسلمت، بل دامت عليه إلى آخر عهدها بالحياة. الدفاع عن الإسلام بلا اعتذار هذا الخط هو خط الدفاع عن الإسلام، وحمايته من محاولات التمييع والطمس والتذويب والمواءمة على حسابه بينه وبين الأفكار العلمانية والقومية. ويشهد لثبات جميلة على هذا الخط سائر كتبها ومقالاتها. وأذكر أن آخر مقال قرأته لها، قبل بضع سنوات، كان في رد عادِية المحافظين الجدد التي استشرت على الإسلام عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م. والوثيقة التي أوحت إلينا بهذه الملاحظة هي الرسالة الأولى التي بعثت بها شيختنا مريم جميلة إلى شيخها الإمام المودودي في ديسمبر من عام 1960م، حيث أخبرته بالظروف التي قادتها إلى التعرف به، كما دلته على خطها الفكري. وفيها قالت: أثناء السنة الماضية، أردتُ أن أكرس نفسي للصراع ضد الفلسفة العلمانية المادية، والقومية التي ما زالت منتشرة جدًا في العالمِ اليوم وتهدد لَيس فقط بقاء الإسلام لكن الجنس البشري بالكامل. وبهذا الهدف في وجداني، فقد سبق لي أن حررت عدة مقالات، نُشرت ستة منها فى «ملخص المسلم The Muslim Digest) وكذلك فى The Islamic Review of Working. مقالتي الأولى كان عنوانها «نقد كتاب الإسلام فى التاريخ الحديث» A Critique of Islam in Modern History للبروفسور وليفرد كانتويل سميث، مدير المعهد الإسلامى بجامعة ماكغيل بمونتريال، وتدحض المقالة نقطة بنقطة حججه بأن العلمانية والتغريب يتفقان مع الإسلام، وأن الإصلاحات التي قام بها كمال أتاتورك في تركيا تعطي مثالاً جيدًا للبلاد الإسلامية الأخرى لتطبقه. ومقالتى الثانية بعنوان «القومية وخطورتها على التضامن الإسلامي» تبين كيف أن المفهوم الحديث للقومية لا يتفق بل ويتعارض مع مفهوم الأمة العالمية والأخوة في الإسلام. ومقالتي الثالثة التي ظهرت في عدد يونيو 1960م من The Islamic Review وكذلك فى عدد أغسطس من The Muslim Digest تفند ما ذكره آصف أ. فيضي، وكيل جامعة كشمير، من مناقشات عن تغريب الإسلام وتحديثه وتحريره إلى الدرجة التي يصبح فيها لا شيء، ولكنه مفرغ من قيمه الأخلاقية ولا تأثير له في تشكيل المجتمع وثقافته. وحررت عدة مقالات أخرى تدحض كلام عالم الاجتماع التركي ضياء غولب، الذي حاول أن يخدع قراءه ليؤمنوا بالقومية والعلمانية، وأنها متوافقة مع الإسلام. كمال أتاتورك استقى إلهاماته مباشرة منه، السير السيد أحمد خان الذي اتخذ إلهه العلم والفلسفة الأوروبية. وعلى عبد الرازق الذى نشر كتابه «الإسلام وأصول الحكم» بعد سقوط الخلافة الإسلامية، حاول أن يُظهر أن الخلافة لم تكن قط مرتبطة بالإسلام، وبذلك يجب الفصل بين الدين والسياسة. والرئيس الحبيب بورقيبة، الذى هاجم فى العام الماضى الصيام فى شهر رمضان، واعتبره من المعوقات للنمو الاقتصادى فى تونس. والدكتور طه حسين بمصر ومؤلف كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر»، الذي يردد أن مصر هي جزء من أوروبا، ولهذا يجب العمل على التغريب الشامل والعلمانية بصفتهما من الضروريات. وهؤلاء المحسوبون على الإسلام، هم أخطر بكثير من أعدائه الخارجيين، لأنهم يهاجمون الإسلام من جذوره. وبنشر مقالاتى أردت أن أبصر قرائى من المسلمين لهذه الحقيقة. من أكون؟ وبعد أن قامت الكاتبة النيويوركية بالتأصيل الفلسفي المناسب للشجون الفكرية، التي نثرتها بين يدي الإمام، عادت فعرفته بنفسها قائلة: ربما تتساءل من أكون فأنا امرأة أمريكية، أبلغ من العمر ستة وعشرين عامًا، وقد تطور اهتمامي بالإسلام، وبت أعتقد بأنه المنقذ الوحيد للبشرية، حتى أني صرت أفكر في اعتناقه. وتبقى مشكلتى الكبرى أنى لا أجد أحدًا من المسلمين حولى في نيويورك حيث أعيش وأشعر لذلك بالوحدة القاتلة. لذلك حينما رأيت مقالتك فى The Muslim Digest سارعت بالكتابة إلى محررها ألتمس منه أن يزودني بعنوانك أملاً فى أن تراسلنى. فأرجو إذن أن تزودنى بنماذج من مقالاتك، وبالأخص إحدى رسالاتك التى نشرتها قبل سنوات بعنوان «منهاج الإنقلاب الإسلامي». وبما أن كلانا يرنو نحو الأهداف نفسها، فأرجو أن أسعد بالاتصال بك ومحاولة مساعدتك فى تطلعاتك. ثم ذيلت رسالتها باسمها القديم: مارجريت ماركوس. أنت مسلمة تنقصك الشهادة! وقد اهتم المودودي أشد الاهتمام برسالة الفتاة النيويوركية، وسطر ردًا عليها وإن ببعض التأخير، ملتمسًا لنفسه عذرًا في أنه كان يؤدي مهمة كلفه بها الملك سعود بن عبد العزيز، رحمه الله، للتخطيط لتأسيس الجامعة الإسلامية في المدينةالمنورة، وقد استغرقت منه تلك المهمة شهرًا كاملاًَ. وقد حيّا المودودي الآنسة مرغريت ماركوس بتحية الإسلام، رغم أنها لم تكن أعلنت إسلامها بعد. وأبدى غبطته بأفكارها، وخاطبها قائلاً: أنا متأكد بأنك مسلمة، لأن الشخص الذى يؤمن بواحدانية الله، وبأن محمدًا رسول الله الخاتم، ويؤمن بأن القرآن هو كلمة الله ويؤمن بالآخرة، هو فى الواقع مسلم أصيل سواء ولد فى بيت يهودى، أو نصراني، أو بيت من بيوت من عبدة الأصنام. إن أفكارك تحمل الشهادة على حقيقة اعتقادك بالأمور أعلاه. وبناء على ذلك، أعتبرك مسلمة وأختًًا لي في الإيمان. وفي ديننا لا يوجد تعميد ولا تؤدى طقوس ما أمام كاهن، من أجل الدخول فى الإسلام. وعليه فإذا كنت مقتنعة بحقيقة الإسلام، فأنت لست فى حاجة أكثر من أن تلفظي عبارة: أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. ومن ثم تتخذي أحد الأسماء الإسلامية «كعائشة أو فاطمة مثلاً» وتشهري اسمك الجديد وديانتك الجديدة، وذلك حتى يعلم العالم الإسلامى الكبير بأنك أصبحت عضوًا فى الأخوة الإسلامية العظيمة. ومن ثم تبدأين فى أداء الصلوات الخمس المفروضة يوميًا وتتبعين تعاليم الإسلام الأخرى بجدية. أجدك تمامًا على عتبة الإسلام وخطوة واحدة قوية منك إلى الأمام ستلحقك بقطار المؤمنين به.