أخيرا رحلت عن دنيانا المفكرة الإسلامية العالمية، وكبرى المفكرات الإسلاميات طرًا، الأستاذة مريم جميلة، رحمها الله تعالى. صبية إسرائيلية نيو يوركية، عافت ما ألْفت عليها من ضلال، وفكر ديني علماني ممسوخ، فطفقت على حداثة سنها تبحث عن بديل. انتمى أبواها اسميًا إلى الملة اليهودية، بينا بقيا على ممارسة الحياة على النهج الاجتماعي العلماني. ثم شاءا أن يطعما عقائد الدين اليهودي النظرية، بفكر فلسفي وضعي مادي. ثم انتهى بهما الجهد إلى هجر ديانتهما، رغم تلوثها البادي، وانتحال النصرانية دينًا، لأنها بدت في أنظارهما أكثر تلوثًا وتشربًا وانفعالاً بتراث الفكر الوضعي العلماني! شهدت الصبية كل هذا الزيف، الذي لم ينطلِ عليها، وأجمعت أمرها على أن تكافحه، وأن تبحث عن بديل أصيل. وهكذا كُتب عليها أن تخوض، منذ الريعان، أُتُّون صراع فكري وجودي، كان أعظم من إمكاناتها وأدواتها في البحث والتقصي والتحليل. وربما لهذا انتهى أمرها إلى قريب من اليأس والقنوط في الوصول إلى سبيل ذي نور هادي، وأصيبت بشبه انهيار عصبي، بدأت بعده رحلة طويلة بحثًا عن شفاء. وقد وصف حالتها المتفردة هذه البروفسوران الكبيران جون فول وجون سبوسيتو بأنها حالة طفلة غير عادية: «سارت بها توجهاتها الفكرية والدينية مسارًا مناقضًا لتوجهات الثقافة التي نشأت فيها». النور الهادي ولكن ما لبث سبيل الإسلام أن انفسح أمامها رويدًا رويدًا لدى مطالعتها كتب المستشرقين بمكتبة نيو يورك العامة. وقد قرأت هذه المجاميع الضخمة من الكتب بوعي حصافة وحذق، حيث انتبهت إلى سوء مقاصدهم، وعجبت من إصرارهم على نقد هذا الدين بالذات، والتطاول عليه، والعمل على الغض من قدره. مع التهاون وغض النظر، في الوقت نفسه، عن مثالب غيره من الأديان الشرقية، والتعاطف معها في بعض الأحيان. واستغربت استخدام العلماء الذين يدَّعون الموضوعية والحياد والتجرد، لمنهجين مختلفين في دراسة موضوع واحد، هو موضوع الدين. فزاد إصرارها على تقصي موضوع الدين الإسلامي، وبحثه في مصادر أخرى قد تكون أقرب إلى القسط والحق. ضد إصلاح الدين وراسلت عددًا من الشباب من ذراري المسلمين، الذين تعلموا في الغرب ولوثتهم ثقافته، وغدوا ينظرون إلى دينهم نظرة استعلائية، نقدية، انتقائية، و«جَعَلُواْ الْقُرْآنَ عِضِينَ». وهو النهج المعوج نفسه، الذي كانت قد أخذته على أسرتها، وعلى قومها من بني إسرائيل، الذين سُموا بالإصلاحيين، الذين راموا إصلاح الديانة اليهودية، لتماشي الثقافة العلمانية وتنسجم معها، ولم يعملوا على إصلاح ذواتهم لتنسجم مع الدين. وقد ذكرت مريم جميلة خبر هذه الذرية الإسلامية المتفلتة، في مقدمة كتابها الذي احتوى مراسلاتها مع شيخ الإسلام الإمام المودودي، قائلة: «ولم أستمر فى مراسلة كثير من هؤلاء أصدقاء القلم طويلاً، لأني ضجرت منهم بسرعة وبمرارة لطريقة معيشتهم الغربية ولا مبالاتهم بل عداوتهم للإيمان بالإسلام وثقافته، في بعض الأحيان، مع أفكارهم الطفولية». وقررت من ثم أن تخاطب علماء الإسلام أولي الشأن في ذلك الزمان، وفي مقدمتهم الدكتور فاضل الجمالي، مندوب العراق السابق بالأمم المتحدة، والدكتور محمود حب الله، رئيس المركز الإسلامى بواشنطون، والإمام الشيخ محمد بشير الإبراهيمي، كبير علماء الجزائر، والدكتور محمد البابي من علماء الأزهر الشريف، والإمام محمد حميد الله الحيدرأبادي، الذي كان مقيمًا بباريس، والدكتور معروف الدواليبي، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة دمشق، ورئيس الوزراء السابق بسوريا، والدكتور سعيد رمضان رئيس المركز الإسلامي بجنيف. مراسلة شيخ الإسلام وتعرفت على الإمام المودودي، بعد أن اطلعت على مقالة ممتازة، للأستاذ مظهر الدين صديقي، بعنوان «الإسلام الطريق المستقيم»، ومقالة أخرى في مجلة (The Muslim Digest) انطوتا على إشارات إلى المودودي، تصور اتجاهه الفكري العام، فبادرت بالاتصال بالمجلة، لتزودها بعنوان الإمام في باكستان لتراسله وتتبادل معه الأفكار. وفي هذا تقول مريم جميلة: سطَّرت خطابي الأول، وأنا لا أتوقع أكثر من رد مختصر، لتبادل العواطف والأفكار المشتركة. وبذلك لم أكن أتوقع أن تكون هذه المراسلات سيكون لها تأثير على الفترة الأكثر أهمية في تاريخ حياتي. لم يكن مولانا المودودي في حاجة لحثي على تبني الإسلام، حيث إني كنت فعلاً على أبواب التحول إليه، وربما أتخذ الخطوة النهائية حتى قبل أن تكتمل معرفتي به. وكذلك فلم يمارس مولانا المودودي أي ضغط عليَّ للدخول في الإسلام، فقد كنت أكتب مقالات دفاعًا عن الإسلام، وذلك قبل سنة من تعارفنا وتبادل الرسائل. كما أن المفاهيم الأساسية للإسلام تبلورت في ذهني بحزم، قبل تخاطبنا المشترك. على الرغم من ذلك، فنتيجة لهذه المراسلات، فقد اكتسبت زيادة واسعة في المعلومات، مما أثر على كتاباتي، وأثر ذلك على عمقها ونضجها. ولقارئ هذه المراسلات أن يرجعها إلى مناخها التاريخي ففي أمريكا، كان جون كيندي هو رئيس الولاياتالمتحدة، وقد وصلت الولاياتالمتحدة إلى مستوى لم يسبق له مثيل من القوة السياسية والرخاء الاقتصادي. وقد بدأت الحرب الباردة بين روسيا أيام خورتشوف في الاضمحلال. وكان الرئيس في باكستان هو أيوب خان الذي كان يحكم بلا منافسة، ولكي يدعم ديكتاتوريته، فقد فرض الأحكام العرفية، ومنع كل الأحزاب بما في ذلك الجماعة الإسلامية. وحتى فإن العلماء الأتقياء لم يتجاسروا على انتقاد السلطة العليا وتطبيقها للقوانين العائلية غير الإسلامية، ضد رغبة الغالبية العظمى من الشعب. وبعد ثلاث سنوات ونصف من المعاناة النفسية غير المثمرة، وسنتين من العلاج بالمستشفى، فقد كنت أتحول من فترة طويلة من المراهقة الحزينة المليئة بالوحدة والإحباط. وقد كنت أبحث عن نفسى ومكانى الصحيح فى هذه الحياة. فقد كان من رحمة الله سبحانه وتعالى ورأفته بعباده، أن أعطاني في هذه الفترة مولانا أبا الأعلى المودودي. وأعطاني الفرصة لحياة مفيدة وغنية وأرضية مثمرة يمكنى أن أبنى عليها حياتى وأنميها وأنجزها إلى الأفضل.