والزمان ليلة مظلمة من ليالي شهر أغسطس في ذياك العام البعيد والذي ظلت نشرة الحادية عشرة مساء التي تعنى بالأحوال الجوية في التلفزيون القومي، ظلت تعيد في تكرار ممل ومخيف أنه سيكون العام الأسوأ من حيث غزارة أمطاره وأنه سيكون بلا ريب شبيهًا بالعام 1946 الذي شهد فيضانًا لم يكن في الحسبان وفعل فعلته وقتها في البلاد والعباد حتى صار مضرب المثل للنيل في غضبته وعنفوانه. نقول في تلك الليلة الليلاء أرعدت السماء وأبرقت، وتنادت سُحب كالجبال وألقت بمراسيها في سماء العاصمة «المثلثة»، وكحالها عندما تزأر السماء ليلا برعد وبروق قبلية معلنة بداية مخاض طويل لصباح جديد يظل الناس يترقبونه بخوف وقلق، كحالها انقطعت الكهرباء عن معظم أحياء العاصمة فسبحت الأخيرة في ظلام دامس ليس فيه شيء من ضياء اللهم إلا من ضوء شمعة صغيرة يظل لهيبها الراقص يتماوج كلما عصف به هواءً من هنا أو هناك حتى أنه من شدة ظلام تلك الليلة يكاد أحدهم إذا أخرج يده لا يراها.. وفي مثل هذه الليالي تتجمع الأسر في غرفة واحدة، أو في الغرفة الوحيدة التي دائمًا ما تكون ملتقى للأسرة في كل وقت حول التلفاز الوحيد «أيضًا» ربما، والذي يكون بمثابة رابط يجمع الكل في كثير من الأوقات خاصة عند بث بعض البرامج المفضلة كالمسلسل اليومي عند الثامنة مساء أو نشرة أخبار التاسعة أو ربما بعض البرامج التلفزيونية كبرنامج «الصلات الطيبة» أو« فرسان في الميدان» أو غيرهما من كثير من البرامج التي كانت تجذب الأسرة فتظل متحلقة حول التلفاز لساعات مليئة بالفائدة والمتعة. وبالعودة لليلتنا تلك فقد انهمر المطر غزيرًا وظل كذلك لساعات تطاولت حتى بدت تباشير الصباح والناس لم يكد يغمض لها جفن ومن بين بقايا من ماء ظلت تحملها بعض السحب في جوفها وترمي بها بقايا قطرات تتساقط فوق الأرض التي ارتوت حتى الثمالة، من بين ذلك خرج الناس يبحثون عن ما يسد رمق الصغار ويدفئ الأجساد التي نخر عظمها برد تلك الليلة ولا يكادون يجدون شيئًا يسد الرمق بل ولا ما يمكن إشعاله ليدفئ الأجساد المبتلة المرتجفة، لا يوجد فحم ولا خبز ولا دقيق ولا سكر، لا يوجد ماء ولا كهرباء، لا يوجد غاز ولا جاز ولا بنزين.. وكنا وقتها صبايا ننظر الى المستقبل فلا نرى شيئًا، بل كان الوطن برمته ينظر الى المدى البعيد فلا يتراءى له سوى الفراغ والعدم من بعد أن حمل الأماني العذاب أشواقًا تتراقص وهو يقود انتفاضته للسادس من أبريل من العام 1985 ويحيلها ربيعًا أطاح ستة عشر عامًا من الوعد السراب «في وقت لم يكن هناك من ربيع لا عربي ولا غيره». كان الوقت يدنو مسرعًا من عتبة امتحانات الشهادة السودانية للعام 1989 وكنا نسابق الزمان لنكون على أهبة الاستعداد للحدث الجلل فإذا بما هو أجل منه يحدث وإذا بمصير البلاد يتغير ما بين غمضة عين وانتباهتها واذا بالامتحان العسير يصبح امتحانًا أعسر لكل السودان في الخروج من عنق الزجاجة الذي حشرته فيه سنوات الحزبية التي ظنت وهمًا أنها إنما تعيش ديمقراطية وبراحًا من الحرية ولكنها كانت الفوضى بكل معانيها تتجسد في سياسات لم يجنِ منها الوطن غير الضياع، كانت الفوضى التي أطاحت أشواق الملايين الذين رسموا من وحي أبريل وانتفاضته أجمل اللوحات وزينوا بها فضاءات الواقع المر الذي خلَّفته سنوات مايو في قلوبهم وأحلامهم وتفاصيل «اليومي» الذي يعيشونه انكسارًا ومواتًا... وكنا نحن جيلاً يُنشد يا حارسنا ويا فارسنا ويا بيتنا ومدارسنا.. كنا جيلاً تربي على أن مايو هي الخلاص وأنها جدار من رصاص.. فإذا بالرصاص هو الوهم يغتال الوطن، ومن قبله يغتال كل جميل بداخل أجيال ظلت تنام وتصحو على سياسات تعمل على تدجين العقل وإفراغ الوعي من كل ما من شأنه أن يعيد إنتاج فكر يعطي لهذا الوطن معاني العزة والكرامة ويمنح إنسانه قيمة تعيد له بعضًا من إنسانيته التي سلبت منه.. وكنا أيضًا حينما غلي الشارع السوداني كمرجل في ليالي أبريل الساخنة ما قُبيل الانتفاضة وأثناءها، كنا طُلابًا نرنو الى ما عُرف بإمتحان شهادة المرحلة المتوسطة، والتي تؤهل لدخول المرحلة الثانوية. فكنا قاب قوسين أو أدنى من ذلك حينما اشتعلت الثورة ضد العوز والفقر والحاجة، وحينما غضب الشارع من كل ما كان يجري في الخفاء والعلن من سياسات أوردت البلاد والعباد موارد أهلكت الزرع والضرع وجعلت السودان الذي هو سلة غذاء العالم، جعلته متسولاً يقف على أبواب اللئام يستجدي ما يقيم به أود أبنائه.. وما بين الامتحانين، وما بين الحدثين اللذين غيرا خريطة تفاصيل الوطن وانتماءاته، تشكلت أجيال جديدة وتكونت في سماء الوطن سحب تظل تحمل بشارة الوعد الأجمل دومًا.. لقد كانت أبريل وعدًا أخضر وفجرًا صادقًا أعاد للبلاد جوهر انتمائها وأبان للعالم أن السوداني هو المعلِّم الأول للشعوب في كيفية الانتفاض على الظلم ورفض الهيمنة والاستلاب أيًا يكن مصدره..