تأرجح الكاتب الجمهوري المدعو عيسى إبراهيم إزاء قول شيخه المغرور إنه لم يقرأ لأحد وإنه لم يتأثر بمفكّر آخر! وعمل على تخريج الدعوى تخريجًا متكلفًا يوفق بين قول الشيخ المُدَّعي وما لا يصدقه عقل حر معاصر. وهو أن ينشأ مفكّر كبير مثل محمود محمد طه من دون أن يتأثر بمفكرين آخرين سبقوه على الطريق!. سادن الهيكل وقال أسير (الدوغما) وسادن هيكل عبادة الفرد عني: (استنكر د. وقيع الله قول الأستاذ محمود أنه) (يقصد أنه!) لم يتتلمذ على مفكّر معيّن، ونفيه أن يكون هناك مفكرون بالمعنى الذي يكون لهم أثر على حياته، (ركاكة تمام!) ووقيع الله في استنكاره المتعجِّل فوت على نفسه (المفروض أن يضيف هنا كلمة فرصة ولكن تعجل الكاتب أنساه ذلك!) أن يلتقط قول الأستاذ: (ولكن هناك أصحاب مناهج هم الذين تأثرت بهم وهم النبي.. والغزالي.. فلقد اتبعت المنهاج وقرأت شيئاً قليلاً.. شذرات من هنا وهناك).. فما هو مغزى حديث الأستاذ (هناك أصحاب مناهج هم الذين تأثرت بهم وهم النبي.. والغزالي..!).. وقبل أن أنقضَّ على قول أسير (الدوغما) تفنيدًا، فليسمح لي أن أقول له إن شيخه محمود محمد طه رجل غير مؤدب ولا مهذب، إذ يتحدّث عن حضرة النبي الأعظم، صلى الله عليه وسلم، بغير تبجيل وبدون صلاة عليه ولا تسليم. وما سبق لي قط أن قرأت نصًا لشيخه هذا الذميم، يصلى فيه على النبي العظيم، عليه أفضل صلاة وأتم تسليم. وإذن فهو موقف تصميمي منه، يرفض فيه أن يصلي على النبي المعظم، صلى الله عليه وسلم، وهو الذي صلى عليه الجبل الأصم، من قبل أن يبتعث، فكيف بعد أن ابتعث وشرف الكون كله، وليس الدنيا وحدها برسالته؟! وليسمح لي أن أقول له إن الطود الصلد، كان أرق عاطفة من عاطفة شيخك شديد الصلابة والصلافة والجلافة، صاحب القلب الذي لم تنعطف عواطفه باتجاه المصطفى، صلى الله عليه وسلم، ليصلي عليه ويسلم تسليمًا، من مثل ما يفعل نجباء الأتقياء العباد من أحباب وأتباع سيدنا الرسول الأكرم، صلى الله عليه وسلم. فقلب شيخك، محمود محمد طه، قلب غُفل غُلف، اُستبد به الوهم، حتى ظن صاحبه أنه أفضل من المصطفى، صلى الله عليه وسلم مقامًا. وذلك بدعوى أن المصطفى، صلى الله عليه وسلم، جاء برسالة لا تصلح للقرن العشرين!.. يبنما جاء هو برسالة خير منها تصلح للقرن العشرين، وما بعد القرن العشرين، وإلى يوم الدين!. نظرية المعرفة المتوازنة في الإسلام ويبدو أن إنكار محمود محمد طه تتلمذه على غيره إنما هو تمهيد وتبرير لزعمه بالتلقي كفاحًا عن الله عز وجل، ولذلك قال أسير (الدوغما): «وأرجو أن ألفت نظر القارئ العزيز أن وقيع الله في عجلته غير الحكيمة قد أسقط منهج القرآن الكريم في المعرفة» «واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيءٍ عليم»، وأسقط منهاج النبي (صلى الله عليه وسلم) في عبادته وفي ما نطيق من عادته «قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله». وردًا على ذلك أقول له إن المنهج الذي زعمته ليس هو منهج القرآن الكريم في تحقيق المعرفة. حيث أشار القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا إلى ضرورة استخدام المنهج العقلي في توليد المعرفة. وأشار في عديد آياته إلى ضرورة استخدام المنهج التجريبي، وإن شئت قلت الحِسِّي أو (الامبريقي) في تحقيق المعرفة. وأشار في آيات كثر إلى ضرورة الانتفاع بمنهج السلطة التوجيهية الإرشادية التعليمية في اكتساب المعرفة. وحثَّ على اتباع منهج الحَدْس الباطني في الآيات التي أشادت بالحكمة والبصيرة النيرة التي من يؤتاها فقد أوتي خيرًا كثيرًا. ودلَّ أولاً وأخيرًا على أن مصدر الوحي هو آمن مصادر المعرفة وأهداها، والحاكم عليها في سائرها. وهكذا يظهر خطأ قول أسير (الدوغما) وقصوره عن الاستقصاء واعتسافه التعميم غير السليم، حينما زعم أن المنهج القرآني هو منهج الإلهام الباطني وحده. وهو المنهج الذي ادعاه شيخك لنفسه، واستبد بعقول أتباعه به وصادرها ثم ألغاها، لتبقى على اعتماد كامل على إلهامه الشيطاني غير الرحماني. إغواء العقول الساذجة وهنالك سؤال لم يطرأ على عقل هذا الجمهوري الساذج، بل لم يطرأ على عقل مضلله وشيخه، محمود محمد طه، وهو: كيف يمكن لقارئ أن يهتدي إلى منهج كاتب أو عالم أو فيلسوف من دون أن يطلع على آثاره اطلاعًا عميقًا؟! فمن البداهة بمكان أنك لا يمكن أن تتعرّف على المنهج العلمي الذي اعتمده أرسطو، أو أوغسطين، أو الأكويني، أو أبو حامد، أو ابن عربي، أو ابن تيمية، أو ابن القيم، أو ابن خلدون، أو بيرغسون، أو سانتيانا وسواهم من كبار الباحثين ما لم تقرأ مؤلفاتهم بحذق متأمل ووعي حصيف. وبعد ذلك قد تتمكّن من أن تستشف المنهج العلمي الذي اتبعه كل منهم. وبالقطع فلا يمكن أن يتأتى ذلك بقراءات عجلى وتلقى: (شذرات من هنا وهناك)، كما زعم محمود الكذاب!. كتاب التهافت ليس كتابًا في التصوف!. ثم ادعى أسير (الدوغما) الذي سقط من أول مقال أني أهدرت مناهج أئمة التصوف الأجلاء من أمثال الشيخ أبي حامد الغزالي. وقال في هذا الخصوص: (وأسقط ميراثنا الصوفي الذي نافح عنه الإمام الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة» وأنتج لنا كتابه الذي قال عنه الإمام النووي: كاد الإحياء أن يكون قرآناً). وهنا خطأ انزلق فيه أسير (الدوغما) المتحذلق، فليس كتاب الإمام أبي حامد (تهافت الفلاسفة) معدودًا في كتب التصوف ولا في كتب المنافحة عنها.. بل هو أبعد ما يكون عن طرائق التصوف، فهو كتاب في فنون الفلسفة والمنطق، كما أومأ عنوانه، وقد اتجهت مادته الدراسية إلى دحض الأوهام العقلانية المتعالية على الشرع الحنيف. وأما كتاب (إحياء علوم الدين) فهو كتاب في التصوف الإسلامي الراشد، وليس التصوف الإشراقي الباطني الشاطح. وقد كان سيدنا أبو حامد من أشد الأئمة قسوة على دعاة الفكرة الباطنية المخطرفين، ودعاة الشيعة الإمامية المتطرفين، وقد أخرج في الأولين رسالته (فضائح الباطنية)، وكتب عن الآخرين كلامًا موجعًا في كتبه العظيمة الأخرى. نظرية المعرفة الغزالية وقد تحدّث سيدنا أبو حامد عن نظريته الاستقصائية في المعرفة، في كتابه الخالد (المنقذ من الضلال). وفيه قال: (ولم أزل في عنفوان شبابي منذ راهقت البلوغ، قبل بلوغ العشرين إلى الآن، وقد أناف السن على الخمسين، أقتحم لجة هذا البحر العميق، وأخوض غمرته خوض الجسور، لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتهجَّم على كل مشكلة، وأتقحَّم كل ورطة، وأتفحَّص عن عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميّز بين محقٍّ ومُبطل، ومتسنن ومبتدع، لا أغادر باطنيًا إلا وأحب أن أطلع على باطنيته، ولا ظاهريًا إلا وأريد أن أعلم حاصل ظاهريته، ولا فلسفيًا إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلمًا إلا وأجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيًا إلا وأحرص على العثور على سر صفوته، ولا متعبدًا إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقًا معطلاً إلا وأتحسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته). فأنت ترى من هذا النص القيم، أن الإمام الأكبر، رضي الله تعالى عنه، اتبع مناهج التعلُّم الصحيحة، وشقَّ طرائق البحث العلمي الأصيلة، ولم يك دجالاً مثل شيخكم محمود محمد طه، الذي أتى بالخرافات والخزعبلات، وادعى أنه قد اتقى الله تعالى، حق تقاته، فعلمه الله تعالى ذاك العلم، واختصه به من دون العالمين، ولم يرزق شيئًا منه حتى لذلك المستطيل الآخر، الذي ادعى الولاية والمهدية بالأندلس في القرن السابع الهجري!. وأما الحديث الذي استند إليه محمود الكذاب وتلاميذه الكذبة وهو الحديث القائل: (من عمل بما يعلم، ورثه الله علم ما لم يعلم) فهو حديث مكذوب، موضوع على النبي، صلى الله عليه وسلم. وقد أفاد بذلك شيخ الإسلام وخادم تراث النبوة، الإمام الألباني، رحمة الله تعالى عليه.