فاتني أن أذكر في المقال السابق أن الدكتور عبدالوهاب الأفندي قام بتزوير فاضح آخر لعنوان كتابه في الطبعة الأولى لترجمته العربية. وهي الترجمة التي صدرت قبل سنوات، عن دار الحكمة، بلندن، وجاءت تحت عنوان «الإسلام والدولة الحديثة: نحو رؤية جديدة». وفي هذا العنوان المزيف خطأ آخر. لأن الرؤية التي قدمها للفكر السياسي الإسلامي ليست جديدة، وإنما هي رؤية الكتّاب الاعتذاريين القدامى، الذين لم يبصروا كمال مبادئ الإسلام، وتناهيها في الحسن. وأرادوا أن ينتحلوا أعذارًا عن قصور المبادئ الإسلامية في التجاوب مع العصر الحديث، والتساوق معه، قدموها إلى معاشر المفكرين والمثقفين الغربيين والمتغربين، اعتذروا بها عما لا يروق هؤلاء، ولا يعجبهم من دين الإسلام. وفي مقدمة الكتاب دفع الدكتور عبد الوهاب الأفندي بنفسه ناقدًا بصيرًا، قديرًا على تقويم الفكر السياسي الإسلامي، وتحويره ليلائم ظروف العصر الحديث. ولكنه لم يحرص على التحلي بقيم النزاهة الفكرية، والأمانة الأدبية، التي يقتضي منهج البحث العلمي أن يتحلى بها كل باحث علمي رصين. وحتى يبرر تنازله عن ثوابت الدين الإسلامي، كان لابد أن يُبديَ - كعادته - تشاؤمه المطلق من كل حال، فقال« يواجه العالم الإسلامي في هذه المرحلة واحدة من تلك الحقب التاريخية التي تحدد مصير الأمم، فإما أن تتوجه إلى آفاق مستقبل عظيم، وإما أن تهوي إلى درك سحيق في اتنظار لحظة مماثلة قد تأتي وقد لا تأتي. وكل الشواهد تشير إلى أن الطريق الذي تتجه نحوه الأمة هو طريق الهاوية». فقد شان التشاؤم المطلق رؤية هذا الكاتب، ووصم التعميم الذميم منطقه، وإلا فانظر إلى «كل» هذه التي يزعم بها أن الشواهد تشير إلى أن الأمة الإسلامية تنحدر إلى الهاوية! وقد جاء في الحديث الشريف: «إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكُهم». أي أشدهم هلاكًا! روى الحديث الإمام مسلم، وقال الإمام ابن عبد البر في شرحه: «هذا معناه عند أهل العلم أن يقولها الرجل احتقارًا للناس، وإزراء عليهم، وإعجابًا بنفسه». وزعم هذا المعجب بنفسه أن: «المخرج من هذه الأزمة الكارثة لا بد أن يبدأ من إعادة صياغة كاملة للفكر الإسلامي المتعلق بالدولة وشؤونها». وما عَتَّم أن نصب نفسه لأداء هذه المهمة الضخمة، بعد أن انتقد حذر المفكرين الإسلاميين المحافظين، وتجنبهم لأداء مطالبها. وذكر أن التناول الجاد لهذه المهمة الضخمة، التي تتعلق بنقد الفكر الإسلامي، وتجديده، وإعادة صياغته، قد اقتصر على كُتَّاب الإسلاميات، من المستشرقين والأكاديميين الغربيين، ومعهم: «العناصر المعادية للإسلام التي تسعى للنيل من هذا التراث والتركيز على نقائصه». وربما حاول بإشارته الأخيرة، إلى ممارسات أعداء الإسلام، المفترين، أن يوحي إلى القارئ أنه يبرأ من ارتكاب هذه الممارسات، التي أخذها عليهم. ولكن دعونا ننظر إن كان قد برئ حقًا، أم انخرط فعلاً، في ارتكاب الممارسات عينها، واجتراح السيئات ذاتها، وإتيان ما هو شر منها. وهذا مثال من الأمثلة. يعرف دارسو الفكر االسياسي الإسلامي أن الإمام أبا الأعلى المودودي هو أحد رواده المجددين الكبار. ولذلك وجه إليه سهام النقد الحاد المستشرقون الحاقدون. رَادَهم في ذلك كاهن الاستشراق الكبير، وأستاذ جامعة ماكغيل، التي تعد أحد أخطر الأوكار الفكرية المعادية للإسلام، البروفسور وليم كانتْ وِلْ سميث، الذي تخصص في نقد فكر الإمام المودودي، ومثلت كتاباته المعادية الكِنانةَ التي احتقبها كل أفاك أثيم، ناش الإمام الهمام بالسهام. ثم جاء يسدر على الخط نفسه الدكتور الأفندي، ليفتري على الأستاذ الإمام المودودي الكثير مما نعرض لبعضه في هذا البيان. ولننظر إلى المثال الأول من أمثلة خيانات الدكتور الأفندي لقيم العلم الشريف. فقد شاء أن يشوه فكر الإمام المودودي على نحو عن طريق «الدمغ» الإعلامي، فدمغه بتهمة الفاشية، التي هي أشنع تهمة يوصم بها إنسان في الغرب. وقد جاء الأفندي بنص مقتطع من أحد كتابات المودودي ليؤيد به هذا الزعم المنكر. جاء في كتاب المودودي المنشور بالعربية بعنوان «نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور»، والذي نستند هنا إلى ترجمته إلى اللغة الإنجليزية، بقلم تلميذه البروفسور خورشيد أحمد، أن الدولة الإسلامية تتعامل مع شتى نواحي الحياة، التي يقدم الإسلام معالجاته لها في القرآن، والحديث، ومصادر التشريع الأخرى. وأن الدولة الإسلامية تعتبر شمولية بهذا المعنى، أي بمعنى شمول تناولها ومعالجاتها لشتى نواحي الحياة. ورغم وضوح المعنى الذي أراده الإمام، إلا أن الدكتور الأفندي شاء أن يلبسه معنى آخر، هذا المعنى يرتبط بصفة الدولة الدكتاتورية، القابضة على جوانب السلطة جميعًا بالقهر، والتي تستأصل أعداءها أجمعين. وهو المعنى المنبثق من كلمة «Totalitarianism» في اللغة الإنجليزية. وابتهج الأفندي لدى عثوره على كلمة للإمام المودودي، ذكرها عرضًا، وهو يوضح مقصده عندما شرح معنى الشمولية، قائلاً: «إن الدولة الإسلامية تشبه في شمولها هذا الدول الفاشية والشيوعية». واستنبط الأفندي من هذه العبارة العارضة، أن فكر الإمام المودودي فكر فاشي، قائلاً: «وقد استنتج المودودي من هذا أن الدولة الإسلامية لا بد أن تكون شمولية، أقرب نموذج لها في عصرنا هو الدول الشيوعية والفاشية». ولأننا متعودون على فكر الإمام المودودي، الذي قرأنا جل ما ترجم منه إلى العربية في عهد الشباب، ولأننا قرأنا له كتاباته الكثيرة، التي شجب بها الأفكار القومية والعنصرية، ومنها الأفكار النازية والفاشية، فقد هالنا أن ينسبه هذا المفتري، المتجرئ، المسمى الأفندي، إلى شيء من ذلك. ورحنا نراجع بعض كتابات المودودي بدءاً بهذا المقتطف الذي جاء به هذا المفتري. فماذا وجدنا؟! وجدنا الإمام المودودي يستدرك، ويقول مباشرة، وبلا فاصل، بعد عبارته التي جاء بها في تشبيه شمولية الدولة الإسلامية بمبدأ الشمولية الفاشية والشيوعية:» ولكنك ستكتشف لاحقًا أن الدولة الإسلامية، رغم اتساع نطاق وظائفها، لتشمل نواحي الحياة جميعًا، إلا أنها تختلف اختلافًا جذريًا، مع الدول الشمولية والدكتاتورية. لأن الدولة الإسلامية لا تقمع الحريات الفردية لمواطنيها، ولا يسمح قانونها لها بأن تمارس، أدنى سلطة دكتاتورية على مواطنيها. إنها دولة تمثل التيار الأوسط، بين التيارات السياسية، وتحتوي على أرقى ما يمكن أن يرقى إليه مجتمع إنساني». ثم قال المودودي، في مقطع آخر، ميز فيه شمول التعاليم التي تقوم على تنفيذها الدولة الإسلامية، عن طابع الشمولية، التي توصف به الدول الشيوعية: «إن الدولة الإسلامية تقوم على إيديولوجية معينة، ويؤمن مجتمع تلك الدولة بالإيديولوجية نفسها. وهنا نلمس مرة ثانية بعض أوجه الشبه، بين طبيعة الدولة الإسلامية، وطبيعة الدولة الشيوعية. ولكن ينفي هذا الشبه، طريقة تعامل الدول مع المواطنين، الذين لا يحملون إيديولوجيتها. والإسلام، على عكس الشيوعية، لا يفرض مبادئه الاجتماعية بالقوة، على الآخرين. ولا يقوم بمصادرة ممتلكاتهم، أو ينشر حالة من الرعب، بممارسة القتل الجماعي، أو تحويل الناس إلى عمال مسخرين، مسترقين للدولة، كما كان حال المنفيين الروس إلى مجاهل سيبيريا». فلماذا حذف الأفندي هذا المقطع الطويل، الذي استدرك فيه المودودي على نفسه، ونبَّه سامعه به، وحذره من أن يكون سطحيًا، شكليًا، متسرعًا، يأخذ التشبيه على علاته، ويبلغ به أقصى المدى؟! يصعب علينا أن ننسب الأفندي إلى حسن الظن، وأن ندعي أنه لم يطلع على هذا الاستدراك، وذلك للآتي: 1- أن الاستدراك ملتحق بالعبارة التي قطفها الأفندي سابقًا، وملتصق بها أشد الالتصاق. فلا يمكن أن تكون عينا الأفندي قد أبصرتا القسم الأول من العبارة الطويلة وعَشَتْ عن باقيها! 2- إن المفكر الجاد الذي ينصب نفسه لمهام النقد الفكري، لابد أن يكون قد استفرغ الوسع في الاطلاع، على ما زعم أنه اطلع عليه ونَخلَه جيدًا، قبل أن يتصدى لنقده وتقويمه. 3- أن للإمام المودودي نصوصًا أخرى قاطعة، في نقد الدعوة الفاشية، وردت في العديد من كتبه منها كتابه «معضلات الاقتصاد وحلها في الإسلام» وكتابه «أسس الاقتصاد بين الإسلام والنظم المعاصرة» وكتابه «بين الدعوة الإسلامية والرابطة القومية» وغيرها من الكتب النيرة. 4- أن أي ملم بتيارات الفكر الإسلامي الحديث، يعلم أن العلامة الدكتور محمد إقبال، وتلميذه العلامة الإمام المودودي، كانا أشد أعداء الفكرة القومية بين المفكرين الإسلاميين. وأنهما ربما وصلا إلى حدود التطرف في موقفهما هذا، الذي نقله عنهما سيد قطب إلى العالم العربي، وأنشأ من وحيه فصلاً غير موفق في كتابه الخطير «معالم في الطريق». «وفي المقال التالي نواصل - بإذن الله تعالى- تعقُّب خيانات الأفندي لأمانة البحث العلمي الشريف».