نحن عادة نشيد بالناس ونذكر إنجازاتهم بعد أن يفارقوا هذه الدنيا الفانية ويندر أن نثني على ما يفعلونه وهم أحياء. وربما كان ذلك انعكاساً ل «اذكروا محاسن موتاكم» وليس المقصود بهذا أن نسكت عن محاسن موتانا ولا نذكرها إلا بعد وفاتهم ولكن المقصود به ألا نذمهم وهم أموات. أنزلوا رموزكم منازلهم التي استحقوها بجدارة وهم أحياء واذكروهم أيضاً بكل الخير عندما ينتقلون إلى رحاب ربهم. الدكتور كمال حنفي أحد الذين استوقفني بغزارة علمه وأسلوبه المتفرد وقد كتبت عنه مقالاً نشر بجريدة الرائد يوم 12/4/ 2009 م عندما حرك مخيلتي وحفزني لمجاراته في مقال نشره بتاريخ سابق فقلت: «تعجبني كتابات الدكتور كمال حنفي في زاويته المقروءة «إلا قليلاً». تتميز تلك الكتابات بأفق واسع وثقافة عميقة الجذور يقدمها الدكتور بأسلوب راق لا شبهة فيه لإسفاف ويستطيع أن يناقش أعقد القضايا وأكثرها حساسية بل يسمي أحياناً الأشياء بأسمائها بعد أن ينزع عنها كل ما يمكن أن يعرقل خدمتها الأساسية للنص. مثل المذيعة فائقة الجمال ولكنها تجذبك إلى المادة التي تقدمها لا الجمال الذي يتقدمها. عكس تلك التي تضيع عندها أهم الأخبار في غنج وفحيح أنثوي وهي تتقصع وتتلوى لتقول لك: «حدث إنفجار كبير هزّ مدينة الموصل» وكأن الذي اهتز هو وسطها. كتب الدكتور لا نضب قلمه عن غدة البروستات في طرافة وتوريات وسياق ساخر فأوصل الرسالة العلمية إلى حيث يريد لها أن تصل كما أوصل الرسالة الاجتماعية مفجراً قضية الحدود الفاصلة بين المرأة والرجل والمنفعة المشتركة للبروستات بين الذي يملك والتي لا تملك. لقد تطرقت لإعلان في جريدة إعلانية يعادل ثمن صفحة عن مستحضر عشبي يعالج البروستات عند السيدات. فذكرت ذلك في الجلسة الثالثة لمؤتمر اختصاصيي علم الأمراض الذي عقد جلساته بدار الشرطة ببري في الفترة 7 9 أبريل. كمثال لما يمكن أن يحدث خللاً في قناعاتنا وقناعاتهن التشريحية فربما شعرن أن غياب البروستات يستدعي عملية زراعة بروستات لتكتمل بها أنوثة المرأة طالما أن ذلك المستحضر الذي وصلنا من معشبة «زين الأتات» اللبنانية يقدمه كعلاج للبروستات عند السيدات. إن غياب الدليل، ليس دليلاً على الغياب. Absence of proof is no proof of absence. لقد دفعت هذه الواقعة الأخ الأستاذ الشاعر شمس الدين حسن الخليفة أن يبدي انزعاجه من احتمال ظهور أغان جديدة على شاكلة: انظر شوف حلاتا الظهرت بي غلاتا قالت لي عياها التهاب البروستاتا وربما تطور الأمر إلى أبعد من ذلك. وفي عدد الأمس السبت ظهر الإعلان «في نفس الجريدة الإعلانية» عن المستحضر خالياً من ذكر أي أمراض يعالجها وهذا أيضاً أمر خطير... كيف تعلن عن مستحضر لا مرض له. ألم أقل لكم إن القصة جاطت لدرجة أن وزارة الصحة والمجلس الصيدلاني وقفا عاجزين عن مجابهة تلك الهجمة الشرسة من أعشاب لا يدري أحد عنها شيئاً. بل إن الحياء العام لم يجعل إعلاناً آخر يمتنع عن الإعلان عن مستحضر يؤدي إلى زيادة في طول عضو معيَّن. فتصور إلى أي حد بلغت الجراءة في مخاطبة الأسرة السودانية التي أشار الدكتور كمال حنفي بلغة عالية مهذبة إلى تناقضاتها في هذا المجال دون أن يخدش حياء أحد. تحياتي للدكتور. كان لمقال الدكتور الراحل المقيم فينا بكلماته الذهبية ال«333» كلمة التي كان ينثر فيها درره علينا أثره العميق لأنه حفزنا وأثار فينا الرغبة في الخروج من دنيا الركاكة والاعتيادية إلى دنيا الإبداع الحقيقي الذي هو سيده وسنام مضمونه وكما قال جون كوكتو: «ليس الفن أن تقول أشياء بسيطة بلغة معقدة.. بل أن تقول أشياء معقدة بلغة بسيطة». وهذا بالضبط ما كان يفعله الراحل المدرسة كمال حنفي.. رحمه الله رحمة واسعة وأحر التعازي لأسرته ولأسرة الرأي العام وقرائه الذين يعرفون فضله .. وإنا لله وإنا إليه راجعون.