تقول الطرفة إن أحد »الوجهاء« المحسوبين على شريحة رجال الأعمال في السودان كان يجلس »ضارب حكارو« يعني يجلس القرفصاء بالعربي... على البلاط وأمامه كميات ضخمة من الربط والمكعبات النقدية ومعه خمسة من عماله وحراسه يعدون النقود التي جاءت إليهم في ثمانية جوالات كانت حصيلة اليوم من »السّرِّيحة« الذين يحومون بالسوق بالنهار ويصيحون في الناس قائلين »دوار ريال يا شاب«. وأحد »الشحادين« كان قد وجد طريقه إلى مكتب اللورد الوجيه ووقف أمام المجموعة »المتفرجخة« على البلاط وأمامهم أرتال النقود الورقية التي يعدونها وكلها من فئة الخمسين جنيهاً والعشرين جنيهاً.. والمسكين صار يصيح فيهم »من حق الله، الكرامة يا جماعة، من خزاين الله، أدونا الله يديكم« وعمكم الوجيه بالطبع »زهج« من الزول لأنه شغل المجموعة عن عدّ النقود... وقال للمسكين »الله كريم يا حاج والله سيولة ما عندنا«.. وطبعاً الوجيه كان يفهم أن السيولة معناها نقود معدنية ولا يعرف ولا يدرك أن الأكوام التي أمامه هي السيولة ذات نفسها. وقبل يومين أوردت بعض الصحف خبراً يقول إن »الحرامية« خطفوا مليون جنيه »يعني مليار« من أحد تجار العربات بعد أن صرف المبلغ من أحد البنوك وعندما همّ بوضع المبلغ في السيارة جاء »حراميان« وخطفا المبلغ. وبالطبع ربما أن »الحراميين« كانا يراقبان الرجل منذ استلامه المبلغ، وربما أنهما يعرفانه و»لبدا« له بعد متابعة. وهذا ما ستوضحه نتيجة التحقيق والمحاكمة... وأوردت الأخبار أن صاحب بيع سيارات آخر كانت لديه ستمائة مليون داخل »ضهرية عربية« فقدت بعد ربع ساعة عندما دخل إلى متجر ليشتري شيئاً وخطف الحرامية المبلغ وهربوا... ولا يهمنا كثيراً أو قليلاً إن كان الحرامية قد خطفوا ملياراً أو عشرة مليارات وهو أمر يحدث في القاهرة أو في باريس أو حتى في نيويورك.. ولكن يهمنا أن نسأل لماذا يقوم بعض الناس بصرف مبالغ بالمليارات ووضعها داخل السيارات ومن ثم يتعرضون لخطر النهب؟!... والإجابة يمكن أن تكون أنهم يتعاملون بها في السوق لأنهم يشترون العربات أو يسلفون الآخرين أموالاً كبيرة وضخمة... وبعضهم ربما يريد أن يدفع ديوناً أو استحقاقات لآخرين.. وهنا يبرز التساؤل الثاني.. ولماذا لا يستعمل هؤلاء الناس الشيكات والصكوك وأوامر الدفع وكروت الائتمان. بمعنى أنه كان يمكن أن يقوم صاحب المال بكتابة ورقة صغيرة »إن شاء الله على علبة سجاير« فقط مطلوب أن يضمنها توقيعه الصحيح ويطلب من البنك دفع خمسمائة مليون لفلان الفلاني. ولكن تذكرون أننا كتبنا في بداية الأسبوع مقالاً تحت عنوان البنوك الخفية (invisible banks) فقلنا إن هناك أكثر من ألف وخمسمائة بنك مخفية تتمثل في دكاكين بيع السيارات والدولار، إضافة إلى ثلاثة آلاف بنك تحت مسمى أكشاك تحويل الرصيد... وهذه البنوك طبعاً تسحب السيولة من المصارف الحقيقية وتضخها في السوق لتشفطها مرة أخرى... ولا بد أن من يسحب مليارين نقداً ويضعهما في الضهرية يريد أن يتعامل بها في السوق... والمعروف أن سعر الفائدة للمعاملات الربوية يصل إلى 35 في المائة في الشهر »يعني أربعمائة وعشرين في المائة في العام«... والكثيرون من رجال الأعمال وأصحاب المصانع تم إفلاسهم وتدميرهم بسبب الاستدانة من »البنوك المخفية« خارج الجهاز المصرفي. والأخبار التي ترد يومياً عن نهب أموال من تجار العربات أو تجار الدولار ما هي إلا مؤشر صغير جداً عن حجم السيولة المتداولة في أيدي عضوية البنوك المخفية. وإذا كانت جملة السرقات والنهب اليومية في هذا القطاع تصل في حدها الأدنى إلى مليار جنيه وكانت تمثل واحداً في الألف من رأس مال المتداول، فهذا معناه أن إجمالي السيولة المتداولة لدى البنوك المخفية يصل إلى »ترليون« جنيه في اليوم. ولعلنا هنا نتوقع من البنك المركزي والبنوك التجارية كلها أن تنظر في ضرورة إرشاد الناس وتثقيفهم بكثافة حول التعامل بالصكوك والأوراق الائتمانية وأوراق الدفع المكتوبة والكروت بدلاً من التعامل العشوائي بالنقد في »ضهرية العربية«. وربما يرى البنك المركزي تقييد مسألة الكاش المستلم وتخفيض الكمية إلزاماً إلى الحدود المعقولة. ومن المؤكد أن تاجر العربات الذي يحمل مليارين في الضهرية لم يكن ينوي أن يشتري بها »برتكان وموز« ولا ينوي أن يشتري بها »عيش ولحمة«، وقطعاً لم يكن يريد أن يدفع إيجار البيت أو العوائد أو حتى الضرائب. ولا بد أن هناك أغراضاً أخرى دعته إلى سحب هذا المبلغ الكبير، وهي »قطع شك« أغراض تعامل تجاري خارج الجهاز المصرفي. وبوسائل ائتمانية لا يتعامل بها ولا معها جهازنا المصرفي. كسرة: نختم طبعاً بالتساؤل بتاع كل يوم عن موعد فك الارتباط بين دولة الجنوب والفرقة التاسعة، ودولة الجنوب والفرقة العاشرة، ودولة الجنوب وعرمان، ودولة الجنوب وقطاع الشمال، ودولة الجنوب وعقار، ودولة الجنوب وناس الحلو... وأجدني متأكداً بنسبة مليون في المية أن الجنوبيين لن يفكوا الارتباط مع الناس ديل مش لو فتحنا المعابر أو مررنا البترول أو أعطيناهم الحريات الأربعين، أو حتى عملنا لهم السبعة وذمتها... فلن يفكوا الارتباط حتى لو قلبنا الهوبة!! وانتظرونا وانتظروهم!!