الروح العالية والنظرة التفاؤلية التي يبديها وفدا التفاوض «الحكومة وقطاع الشمال» بشأن المنطقتين «النيل الأزرق وجنوب كردفان» تسبقها محاذير داخلية لكليهما، ففي الوقت الذي تسود فيه الأجواء وتمضي دون تعكير صفوها في سبيل الوصول لنهايات مرضية تقيهما العودة للمربع الأول «الحرب» في المنطقتين، نجد في المقابل أن أي من طرفي التفاوض يتحسس زناده لإطلاق البارود كل في وجه الآخر، غير أن هناك التزاماً قطعه المجتمع الدولي أمام الحكومة والحركة بوضع السيف على رقابهم في حال فشل المفاوضون لتسوية الأمر، وذلك بفرض عقوبات ربما تكون قاسية خاصة على الخرطوم، فالقرار «2046» الصادر عن مجلس الأمن الدولي وخريطة طريق مجلس الأمن والسلم الإفريقي فرضا على الحكومة التفاوض مع الحركة الشعبية قطاع الشمال، إضافة الى أن اتفاق التعاون المشترك الذي وقع مع دولة الجنوب فرض واقعاً جديداً مهد الطريق لتلك المفاوضات، لأنها مبنية على الترتيبات الأمنية التي تتضمن فك الارتباط وإيواء التمرد بين الدولتين. مكاسب وخسائر: قطاع الشمال كسب الاعتراف الدولي باعتبار انه يتم التفاوض معه بحسب القرارات الدولية، هذا إلى جانب اعتراف الحكومة به ممثلاً للمنطقتين، وهذا يعد أكبر مكسب حققه قطاع الشمال، وهذا ما يدفع الحكومة للتوصل لتسوية تمنحه أكثر مما يستحق وأكثر بكثير مما وجده في اتفاق «نافع عقار»، هذا ومن جانب الجانب الأخر فإن قطاع الشمال له جيش ويفاوض ليس بشأن المنطقتين فقط وإنما حول قضايا المشاركة في السلطة وفتح الممرات لتقديم المساعدات الإنسانية لمناطق تمركزهم، وهذا يقود لتعزيز موقفهم العسكري، وفي المقابل تسعى الحكومة للوصول بأي ثمن لوقف الحرب واستئناف الحوار، وهي تتجه لأن تكون المفاوضات طويلة وشاقة، وتحاول الوصول مع القطاع لصيغة تعاد فيها الانتخابات بالنسبة للمنطقتين ووصولا للانتخابات القادمة، ومن ثم تسعى لدمج قوات القطاع مع القوات العسكرية وحصر الخلاف في الإطار السياسي فقط، وفي سبيل التوصل لرؤية حول المنطقتين ستضطر الحكومة لتقديم مزيد من التنازلات، وفي المقابل قد يخسر قطاع الشمال الارتباط مع دولة الجنوب إلا أنه سيظل له تأثير كبير في الأمن. تشوه في الرؤى: الحكومة تمضي نحو التفاوض مثل الذي يسبح في مياه ضحلة، حيث ليس باستطاعته أن يسارع في الخطى مشياً أو سباحة، وهذا ما يتيح أن تكون هنالك تشوهات في الرؤى الحكومية، وكان يتوجب على الوفد المفاوض من قبل الجانب الحكومي الإجابة على عدة أسئلة قبل الخوض في المفاوضات، وسيظل السؤال الذي يدور في الأذهان هل سيفاوض القطاع باسمه ومسماه أم سيفاوض أهل المنطقتين؟ وهل سيفاوض القطاع على أسس سياسية أم على أسس جهوية قبلية ترتبط بالمنطقتين. والمعلوم تماما أن المنطقتين تبعدان عن بعضهما البعض بمسافات شاسعة، كما معلوم أن لكل مشكلاته المختلفة عن الأخرى فضلاً عن أن لكل جوارها المختلف عن ولايات السودان المؤثرة والمتأثرة بالسلام والنزاع، فالحكومة على لسان النائب الأول لرئيس الجمهورية في آخر مؤتمر صحفي أعلنت أنها ستفاوض فقط حول المنطقتين، أما في ما يتعلق بقضايا السودان فهناك منابر أخرى يجب أن تجمع كل أهل السودان مصير المفاوضات: برغم التأكيدات التي أطلقتها الحكومة قبل بدء عملية التفاوض بأن التفاوض سيتم حول المنطقتين وبإشراك أهل المنطقتين، يبرز سؤال مهم أين موقع ياسر عرمان من تلك المفاوضات علماً بأنه لا ينتمي لأي من المنطقتين؟ وقبول الحكومة بوجوده داخل التفاوض سيضعف موقف الحكومة تماماً، وهذا ما قاله الكاتب الصحافي والمحلل السياسي سيف الدين البشير ل «الإنتباهة» فقد رفض بالأمس التعامل مع ياسر عرمان، وكان من أكبر استفزازات نيفاشا لأهل السودان هي أن يعود ياسر عرمان مستفزاً مشاعر السواد الأعظم من أهل السودان، ويمضي سيف الدين إلى أن الوفد الحكومي سيفاوض أهل جنوب النيل الأزرق لوحده، ثم يمضي ليحاور أهل جنوب كردفان لوحدهم، فإن سلكت الحكومة هذا الطريق يعتبر المسلك السليم، مع أن ذلك يتطلب وجود وفدين يفاوض كل على حدة حول قضاياهم المعلقة. تشويش وخلط: هناك تشويش وخلط مما يؤدي إلى عدم الرؤية تجاه تلك المفاوضات، ويقول سيف الدين إنه كان يتوجب على الحكومة توضيح الأمور لأبناء المنطقتين، وعدم خلط الأمور بأن عرمان لن يعود مرة أخرى، الإ انه سيظل طريدا من الوجدان السوداني، فكان يمكنه أن يأتي للخرطوم ويمارس العمل السياسي، لكن يعلم الكثيرون أنه ملفوظ ويعاني من اليتم السياسي، فاليسار بما في ذلك الحزب الشيوعي وغيره من الأقليات اليسارية يقولون إننا فصلنا ياسر عرمان جهراً ويتم التعامل معه سراً، فالأمل الوحيد أمام عرمان أن يتخفى وراء الحركات الجهوية. وطرح سيف الدين سؤالاً: ما الذي ابعد كمال عبيد عن أجواء التفاوض؟ ويجيب: يبدو أن لديه مواقف، وبالتحديد تجاه اليسار الذي يلبس لباس المنطقتين. وهذه المواقف تتسق مع مواقف الشعب السوداني، وبالتالي ضيق عليه بأنه مفاوض متشدد، ومضي لترك التفاوض حتى أنه ليس عضوا في الوفد الحالي، وفي خواتيم القول نخلص إلى أن التفاوض وإن لم يتم عبر الأسس السلمية فإن مصيره الفشل، هذا إلى جانب المقولة الشهيرة لمؤسس منظمة اليونسكو فردريك مايور التي قال فيها: «عندما بدأت الحرب في عقول الرجال، في ذات الوقت بدأت في عقولهم فكرة الدفاع عن مبدأ السلم».